فضاء خالد جمعة الشعري إذ يحتفل بالحب والمرأة الحبيبة يتَسع ليحوز رؤية عوالم لا تحصى من الطبيعة مرَة ومن الأفكار والهواجس، بل الأحلام والخيبات مرَات أخرى. الشاعر الفلسطيني الشاب يكتب قصائده مسكوناً بالرغبة في اقتفاء أثر مخيلته... في إطلاقها نحو عوالم شفيفة من وجد ينتبه للحب في عصف الألم، ويستعير من هناك لوحاته وسردياته. تلفت في قصائد خالد جمعة حميمية البوح التي تسترسل في بناء حركة المخيلة، أو إذا شئنا الدقة أكثر في استحضار ما تؤثثه حدقة المخيلة، السحرية، واليقظة من صور ومن مشاهد ترويها القصيدة بشغف: «لا تكن لوناً لا تكن حزناً لا تكن لحناً لا تكن ابناً لا تكن عيناً/ كي لا تحبك الغجرية/ أقتلها». خالد جمعة في «كي لا تحبُك الغجرية» (منشورات دار فكر – بيروت – 2012) يمتحن الحرّية في استعارة الغجرية كرمز وحبيبة في الوقت ذاته. لا يهمُ كثيراً هنا أن «تلتزم» القصيدة بعوالم الغجرية وصورتها التقليدية، فالأمر الأشد أهمية هو في بنائية القصيدة ذاتها: القسم الأول من قصائد المجموعة ينتمي بالذات لعنوانها، أعني لتلك الغجريَة – الرمز، في قصيدة طويلة (نسبياً)، نرى فيها بنائيات مختلفة لقصائد المجموعة الأخرى. هي بنائية تميل للسرَد وتحرص على الالتزام بمقاطع طويلة تؤلف منفردة قصائد يمكن قراءتها مستقلة، وتنفتح في الوقت ذاته على قراءتها كقصيدة واحدة متكاملة. هي بنائية شعرية ذات صوت واحد منفرد يميل كثيراً نحو الغنائية التي يخفّف منها طابع «السرد»، ما دام الشاعر «يروي»، ويبوح في سياق شعري يسترسل ولا يكاد يتوقف. لا إشارة في كتاب خالد جمعة الشعري هذا تدلُنا إن كانت هذه هي مجموعته الأولى، وإن كنا قرأنا في المواقع الإلكترونية عدداً من قصائد هذا الشاعر الذي يعيش في غزة، أي في تلك البقعة الصغيرة والمحاصرة من العالم، حيث الشعر يصبح بالنسبة لصاحبه انتماء للحياة، وفي الوقت ذاته رئة للتنفس والتواصل مع العالم: «أخرجني من حضورك أدخلك في غيابي، هكذا قال ناي لشهيق العازف» هنا بالذات تبدو الجملة الشعرية «مستقلة» بذاتها أو شبه مستقلَة، حتى وإن أتت في سياق قصيدة كاملة وتتكامل بجملها الكثيرة. خالد جمعة يستهويه التكثيف فيتبعه متوغلاً في محاولاته لرسم وحي مخيلته وعبثها بالرؤى التي تتخايل له، والتي تجعل الكتابة الشعرية تزدحم بانتقالات سلسة من مناخ إلى آخر ومن بيئة إلى بيئة، فيما تظلُ شفافية الرَسم حاضرة في قلب الشعر. شاعر من جيل اكتشف الثقافة ومنها الشعر في الشبكة العنكبوتية أكثر من الورق، خصوصاً أنه يعيش الحصار الطويل بما هو انقطاع شبه شامل عن مصادر الكتب والمجلاَت الأدبية، ولكننا مع ذلك نشهد حضوره الشعري الطافح بالحداثة، ومتابعة ما وصلت إليه قصيدة النثر العربية خصوصاً في بيروت: «مليء بالشمس/ مليء بالظّل/ أركّب مفردة على الخشب/ وأملأ إبريق الفخَار من عنادي». في قصائد المجموعة احتفاء حميم بالحياة، فالقصائد بصورها وإشاراتها تنتقل برشاقة بين الروح الفردية والشجن العائلي، مثلما لا تغفل عن الطبيعة ورموزها الحيَة في نوع من التعويض عن الحديث المباشر عن المكان أي مكان. المكان هنا «يستتر» في كلّ ذلك الوجد بالأسماء والعناوين للبشر والطيور، وحتى للطبيعة المجرَدة. مجموعة خالد جمعة الشعرية «كي لا تحبُك الغجرية» لافتة جميلة تدعونا أن ننتبه لتجربة صاحبها وأن نصغي له.