في مجموعتها الشعرية الثالثة «أن تأكلنا الوردة»، تعلن الشاعرة المصرية الشابة هبة عصام مغادرتها فضاءات قصيدة التفعيلة إلى قصيدة النثر. إنها تضع الإيقاع بعيداً من سياقاتها الشعرية لتقول رؤاها وتصوُرات مخيلتها بطلاقة وحرية. سأقول هنا أن هبة عصام لم تحقق هذا الانتقال بضربة «خاطفة»، فقراءة مجموعتها الثانية «حلة حمراء وعنكبوت»، والتي صدرت في القاهرة قبل سنوات قليلة، جاءت في تركيبها اللغوي وسياقاتها أقرب إلى مفاهيم وتصورات قصيدة النثر، وإن احتفظت بالإيقاع والتزمت به. في «أن تأكلنا الوردة» (منشورات دار شرقيات – القاهرة – 2011) تبدو القصيدة أكثر تأمُلاً: أعني هنا بالذات جموح الشاعرة نحو قراءة حركية للمشهد الواقعي تلاحظ جزئياته، وتجتهد في محاولة رسمها من جديد. قصائد هذه المجموعة الجديدة (وقد تنازلت عن الإيقاع) تنتبه لما في الحياة اليومية لامرأة من مشاهد لها مفرداتها الخاصة: بين مجايليها من الشعراء المصريين الشباب تنحو هبة عصام نحو «قصيدة أنثوية»، نراها بديلاً حيوياً للقصيدة «النسائية» الشائعة والملتبسة بانشغالاتها، ذلك يحققه انتباه واضح لروح الأنثى... لتفاصيل رؤاها، كما أيضاً ليسر تعبيرية هبة عن وقائع وجزئيات ذات صلات وشيجة بمرايا المرأة وملامح روحها من غير قصدية تذهب نحو «فرادة» تقصيها وتعزلها. نلاحظ في جمل هبة عصام وسطورها حرصها البالغ على الالتصاق بحيزها النفسي والروحي على نحو يذهب بنا وبالشعر إلى تخوم وفضاءات اغتراب وجودي، تؤثثها الوحدة. هنا بالذات تبدو القصيدة فضاء ومناخاً نفسياً أكثر منها «سردية» تحيط بوقائع أو أحداث من أي نوع: «تتحسس جدران البيت/ تكلّم الأشياء.../ للعذراء تقول:/ يا أم المسيح... هل تدركين فيم أشبهك؟». ثمة بوح مختلف، لا يتوسّل الهامشي أو المألوف، ذلك لأنه يذهب لقراءة الحزن في تجلياته الأعمق. قصيدة هبة عصام تنطوي أيضاً على تركيب مختلف، فهي وإن التصقت بخيار البوح الفردي المباشر وذي الصوت الواحد، عرفت أيضاً كيف تحفر في خباياه، كي تستدرج مآلاته الداخلية، وتعيد رسمها بلغة بالغة التكثيف حتى في تلك القصائد التي تعتمد سردية شعرية، فالسياق العام والأساس يظلُ الانحياز إلى لغة البوح بشفافيتها البسيطة والعميقة في آن. هي قصائد إذ تحتفل بالحياة على هذا النحو الكثيف، يأتي احتفاؤها في سياقات بنائية أساسها درامية المشهد، فالنظر المتجوَل لحدقتي الشاعرة تعصف به أيضاً انتباهات عميقة لما في تلك الحياة من جموح تبدو المشاعر الإنسانية خلاله مساحة للألم والوحدة. هنا أيضاً تحضر مفردات المكان بل وأيضاً عوالمه، ولكن باعتبارها جزئيات وشواهد تشير إلى الروح بفرادتها وفرديتها معاً، ولعلّ تلك الصفة بالذات هي ما تضيف للقصائد نكهتها المميزة واقترابها اللصيق بشاعرتها وبالقارئ على حد سواء. أنتبه كثيراً هنا إلى حضور المناخ النفسي الذي تؤسسه قصيدة هبة... هو عالم من المشاعر والمرويات، بل والأحلام الطالعة من مخيلة ترى وتسمع، ولكنها تعيد إلينا ما رأت وسمعت بلغة مختلفة. هي الصورة الشعرية إذن. في «أن تأكلنا الوردة» تأخذنا المجموعة منذ عنوانها إلى ملامسة ما وراء الوجه الآخر لكل ما هو رقيق وناعم في المظهر. الوردة بمعنييها الواقعي والرمزي لها أيضاً أشواكها، وهي الرؤية غير المباشرة التي ينبغي على الشعر الذهاب إليها بعمق وتفاصيل. هي تجربة أخرى لشاعرة تمنح قصيدتها حق إقامة علاقة وطيدة وتأملية مع القارئ الذي يجد نفسه أمام رغبة في الإحاطة بمشاهد شعرية، أكثر من استجابته السريعة لبرق صور أو سرديات عجولة. تحتفل قصيدة هبة عصام بعلاقتها الحيوية مع أفكارها من دون أن تتركها تتجوّل طليقة، فالفكرة – وإن حضرت – تظل مشدودة لرؤى المخيلة، وجماليات الصورة الشعرية. هبة عصام في قصائد مجموعتها الجديدة «أن تأكلنا الوردة» تخطو بثقة نحو نضج شعري جميل، يستفيد من تجربة قصيدة النثر العربية، ليبني عالماً خاصاً وبالغ الفنية.