هناك صمت عربي ودولي مريب عن القصف الجوي بواسطة الطائرات الحربية الذي تتعرض له المدن السورية، وخصوصاً حلب، في الشهور الأخيرة. يتكرر الحديث، بالمقابل، في كثير من تصريحات رؤساء ووزراء خارجية دول عن «صعوبة فرض حظر جوي» على بعض مناطق سورية. بل إن باراك أوباما أعطى ما يشبه التصريح العلني للنظام باستخدام سلاح الطيران، حين حدد خطه الأحمر باستخدام السلاح الكيماوي وحده. أقصى استخدام سلاح الطيران في صراع داخلي، لأن المألوف في الأعراف الدولية أنه يشكل نقطة الفصل بين اللامبالاة والتدخل العسكري الفعال بقرار من مجلس الأمن. هناك استثناءان فقط من هذه القاعدة هما إسرائيل ونظام العائلة الأسدية. على رغم الهجمات الناجحة التي نفذتها مؤخراً وحدات من الجيش الحر على بعض المطارات العسكرية، فقد ازدادت وتيرة القصف الجوي الحربي والمروحي في الأيام الأخيرة، مخلفاً أعداداً متزايدة من الضحايا والدمار العمراني. فإذا أضفنا إلى ذلك القصف المدفعي الروتيني كل يوم، اتضح حجم المأساة الإنسانية التي لا تكشفها بدقة أرقام الضحايا المعلنة. وشمل القصف الجوي والمدفعي، إلى اليوم، محافظات اللاذقية وإدلب وحلب ودير الزور وحماة وحمص وريف دمشق ودمشق ودرعا. أي تسع محافظات من أصل 13. وإلى القذائف «التقليدية» تطلق الطائرات قنابل عنقودية محرمة دولياً وبراميل محشوة بالوقود والمواد المتفجرة، تحقق أكبر تدمير ممكن حيثما سقطت. من نافل القول إن نظاماً قام بكل هذا الفتك بالبلد لا يمكنه أن يحكمه بعد الآن مهما بلغت درجة التواطؤ الدولي معه. وهو على أي حال لا يحكمه اليوم، بل تحول إلى عصابة إرهابية خارجة على القانون، تملك أسلحة خطيرة بما في ذلك أسلحة دمار شامل كيماوية وجرثومية. ما الذي يدور إذن في أروقة الدول الفاعلة في العالم بصدد سورية ومصيرها؟ ما نعرفه من معلومات هو أن الدول الغربية تواصل الضغط على المعارضة السورية لتتوحد وتشكل حكومة انتقالية، مقابل عجزها التام عن ممارسة أي ضغط على النظام. يتحدثون كثيراً عن رغبتهم في تسليح الجيش الحر، ثم يتراجعون عن ذلك بدعوى خضوعهم لحظر تصدير الأسلحة إلى سورية. يقيمون ورشات تدريب لكوادر شابة من المعارضين استعداداً ل «اليوم التالي» من غير أي مساهمة في تقليص الزمن الذي يفصلنا عنه. يسربون لصحفهم أخباراً عن تسلل مجموعات استخبارية بريطانية وفرنسية وغيرها إلى الداخل السوري، ولا نعرف ما الذي تفعله. ويواصلون بالطبع مضغ تلك العلكة المستهلكة عن الفيتو الروسي – الصيني... ما الذي يدور حقاً؟ هل صحيح أن سورية لا تهمهم؟ أم أنها بالعكس تهمهم إلى درجة الرغبة في تدميرها على يد العصابة الممسكة بترسانة الأسلحة التقليدية وغير التقليدية؟ أم أن الثورة الشعبية هي ما يريدون لها أن تنتهي وتتوقف عن الانتشار في العالم العربي، بعدما حققت نجاحات أربعة في تونس ومصر وليبيا واليمن؟ يكررون القول كل يوم إن الحالة السورية تختلف عن الحالة الليبية. هل نبحث عن الأجوبة عن كل الأسئلة السابقة في هذه النقطة؟ أي في سرد الفوارق بين الحالتين؟ لنفعل إذن: نستبعد أولاً درجة وحشية النظامين في القتل والتدمير في مواجهة شعبي البلدين. فقد تفوق نظام الأسد في ذلك على نظام عَمِّهِ القذافي. كما نستبعد درجة العته بين الرجلين، فقد انكشف أن الشهرة للعم والفعل لابن الأخ. أما من حيث متانة التحالفات الدولية التي احتمى بها النظامان، فلم يكن أبو سيف أوطأ كعباً من أبي حافظ. فقد استخدم الأول بيرلسكوني وساركوزي وبلير إلى درجة لم يبلغها استخدام أبو حافظ لميشيل سماحة وأمثاله، في حين تنبع متانة تحالفه مع إيران وتوابعها من أنه واحد من هذه التوابع. يكثر الحديث، في سياق المقارنة بين الحالتين، عن نقطتين ونصف نقطة: كون سورية عقدة تفاعلات استراتيجية إقليمية، والفسيفساء الشهير الذي يتشكل منه النسيج الديموغرافي السوري. أما «نصف النقطة» الأخير فيتعلق بالخطر الإسلامي المحتمل وبخاصة تنظيم القاعدة. عقدة تفاعلات إقليمية؟ هذا صحيح: تندرج سورية الأسد في التحالف الإقليمي الشيعي بقيادة إيران، في مواجهة تحالف سني بقيادة خليجية. ما هو معلن في سياسات الغرب وإسرائيل إزاء إيران يفترض سلوكاً غربياً مغايراً في مواجهة النظام السوري المتداعي، ومنسجماً مع المواقف اللفظية المعلنة. أما الفسيفساء الديموغرافي، فنحن أمام احتمالين: إما أن الغرب يريد المحافظة على وحدة سورية بتنوعها الديني والمذهبي والقومي، أو أنه يعمل على تفكيكها إلى كيانات مايكروسكوبية. وبما أن العالم كله بات يعرف أن العصابة الممسكة بالأسلحة الفتاكة تشكل خطراً على تماسك سورية والإقليم المحيط، وأن تفكك الكيان السوري والإقليم من شأنهما أن يشكلا بيئة مثالية لتنظيم القاعدة، يفترض المرء سلوكاً من الغرب يؤدي إلى التعجيل في إسقاط النظام. وهو ما لا نراه في الأفق. من المحتمل إذن أن الغرب أفلت الزمام للنظام ليقتل ويدمر إلى الحد الذي يجعل فيه الشعب والمعارضة يصرخان أولاً، فيقبلان بنوع من الحل الوسط الذي قد يشبه الحل اليمني إلى هذا الحد أو ذاك. أي ترحيل العائلة الحاكمة والحفاظ على النظام، مع اقتسام النفوذ بين طرفي الحرب الباردة الجديدة: روسياوإيران من جهة، والغرب مع التحالف الإقليمي السني من جهة ثانية. لكن تقاسماً كهذا لتركة الولد المريض الجديد، لا بد أن يتضمن تفاهمات إضافية في شأن الملف النووي الإيراني وإعادة تنضيد الوضع العراقي وطائف لبناني ثانٍ ومصير حزب العمال الكردستاني. خلاصة القول إن الثورة التي وصلت شرارتها إلى عاصمة الأمويين، أصبحت المائدة التي سيستكمل عليها العالم إعادة اصطفافاته، بعدما بدأها قبل عقدين في أوروبا في أعقاب سقوط جدار برلين. * كاتب سوري.