يقول باولو فريرو، أحد علماء التربية، إن مشكلة انسان الأمس في محاولة فهمه لما كان يجري حوله، أن المعلومات كانت شحيحة الى درجة ان أي رأي يكوّنه كان لا بد أن يكون خاطئاً، أو جزئياً في أفضل الأحوال. أما انسان اليوم، فيواجه عقبة من نوع معاكس، إذ تتكاثر المعلومات وتفيض من كل جانب حول أي موضوع، بحيث يصبح عرضة للضياع في التفاصيل، وفي حيرة من تشكيل رأي واضح يستطيع استيعابَ المعلومات المتوافرة، والتمييزَ بين الغث والسمين منها. نجابه وضعاً كهذا الأخير عندما نحاول فهم ما يجري في المشرق العربي، خصوصاً في سورية اليوم، واتجاه الأحداث فيها الى نهايات متفجرة على الأغلب وبدايات جديدة غامضة، لكن قد يكون مفيداً محاولة رسم الإطار العام للصراعات الدولية والإقليمية والوطنية الجارية. إذا بدأنا من الاطار الأوسع، نجد أن الولاياتالمتحدة الاميركية، وإلى جانبها الاتحاد الأوروبي واسرائيل، ركزت منذ أكثر من عقد من الزمن على أزمتها مع إيران، وتخوفها من تحول هذه الأخيرة، سراً أو علناً، الى قوة نووية تهدد مصالحها الحيوية. وقد رسمت إستراتيجيتها العليا على أساس منع طهران (وقبلها بغداد) من امتلاك أي قدرة أو سلاح ردع فعلي على مستوى المنطقة. أما اذا استطاعت إيران النجاح في مشروعها، فان ذلك سيمثل اختراقاً نوعياً، لا لسيطرة الغرب على الخليج العربي ونفطه (وما أدراك ما نفطه!) فحسب، بل لسيطرة الاتحاد الروسي على آسيا الوسطى، المعتبَرة جزءاً من مناطق نفوذه ولو بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. لذلك، فإن موسكووواشنطن على تلاق غير علني -حسب تقديرنا- حول هدف تحجيم إيران إستراتيجياً، وإن كانتا على غير اتفاق بعدُ على وسائل التنفيذ الأفعل. ردت إيران على محاولات عزلها دولياً بتوسيع دائرة حركتها الإقليمية، وكان أن ساعدتها واشنطن بغباء غير مسبوق، قادته سياسات اليمين الأميركي والرئيس جورج بوش الابن -المرتبك والمحرج بعد تفجيرات تنظيم «القاعدة» في نيويوركوواشنطن في 9 أيلول (سبتمبر) 2011-، فقامت بغزو العراق، فإذا بها تلغي من دون تخطيط مسبق، على ما نعتقد، الحاجز السياسي-العسكري الاساس بين إيران والخليج من ناحية، وبين إيران والبحر المتوسط من ناحية أخرى. وكانت نتيجة ذلك الغزو الفاشل سياسيةً بامتياز، خصوصاً بعد اعلان أميركا انسحابها الوشيك نهاية هذه السنة، تمثّلت بإلغاء التوازن الإقليمي، ما سمح بتمدد النفوذ الإيراني غرباً نحو دجلة والفرات بسهولة ويسر لافتين، وإن كان كثير من العراقيين متفقين على وضع حدود لهذا الأمر. أدوار مختلفة أما دمشق، فكانت تقوم منذ السبعينات بأدوار مختلفة على مسارات عدة، إقليمية ودولية وداخلية، فهي على الرغم من دورانها في الفلك الأميركي الأوسع، إنما بصورة مستترة ولغة إعلامية ممانعة، دخلت منذ الحرب العراقية-الإيرانية في الثمانينات، ونتيجةً لصرف واشنطن -الساعية لانهاك إيران والعراق على السواء- نظرها، في تحالف إقليمي وثيق مع طهران، بالاضافة الى انها قامت أيضاً -بموافقة أميركية تتصل بالوضع الفلسطيني والتنظيمات الاخرى المسلحة التي تمركزت قياداتها في بيروت- بمدِّ نفوذها عسكرياً وسياسياً الى لبنان. وأدت هذه السياسات المربحة مادياً ومعنوياً للنظام السوري، الذي لعب دور حلقة الوصل بين إيران ولبنان، الى اكتمال تشكل كتلة إقليمية واسعة، من الحدود الباكستانية–الإيرانية مروراً بالخليج العربي الى شواطئ شرقي البحر المتوسط. وحيث إنه بدا أن السياستين الخارجية والداخلية لسورية كانتا تعتمدان «تربيع الدوائر»، بالسير مع واشنطن شيئاً، ومع موسكو شيئاً، ومع طهران شيئاً ثالثاً، ومع الرياض شيئاً رابعاً، ومع أنقرة شيئاً خامساً، وتتكلم داخلياً وإقليمياً بلغات أيديولوجية عدة، منها ماهو علماني شديد العلمانية بهدف استقطاب ما يسمى ب «النخب الحداثوية» والاقليات غير الإسلامية، ومنها ماهو إسلامي-إيراني لإرضاء الحليف الإقليمي الأبرز، ومنها ما هو إسلامي-سلفي غير مسيَّس في الداخل بهدف تحييد التيارات الشعبية (مثل تشجيع ظاهرة النساء «القبيسيات»)، ومنها ما هو إسلامي-سلفي-جهادي بهدف استخدامه خارج الحدود (مثل تشجيع ظاهرة «فتح الإسلام»)، ومنها ما هو قومي عربي على خط زكي الأرسوزي، ومنها ما هو قومي سوري على خط أنطون سعادة (انظر مقالة ماهر الجنيدي «حزب البعث القومي السوري» في 12 الجاري في «الحياة»)... تقاطعت اتجاهات كثيرة، ولو متناقضة، للمساهمة في «صندوق التحوط السياسي» Hedge Fund السوري هذا، لأسباب ومن زوايا مختلفة كما هو واضح. لكن جمع كل هذه المتناقضات الأيديولوجية يعني أن لا أيديولوجية حقيقية سوى أيدويولوجية المراوغة لاستمرار السلطة القائمة تحت أي شعار. اكتشفت الولاياتالمتحدة (وحلفاؤها) بعد انتظار غير قصير، أن هذا الوضع لم يعد يرضيها، لأنه لم يؤدِّ لا إلى ردع إيران ولا حتى احتوائها، بل إنّ هذه الأخيرة ازدادت تشدداً في نهجها المطالب بحصة الأسد في الأقليم النفطي الثمين، واعتراف واشنطن بذلك. ولما لم يتم التوصل الى اتفاق كهذا، استطاعت طهران مد نفوذها السياسي والعسكري الى العراق ولبنان وترسيخه، فانعطفت واشنطن الى محاولة تحجيمها بتقليص تحالفاتها، فبادرت أولاً الى سياسة «تغيير سلوك» النظام السوري وليس تغيير النظام نفسه (كما صرح جيفري فيلتمان مساعد وزيرة الخارجية الأميركية قبل سنتين)، ثم صعّدت موقفها عندما فشلت في هذا المسعى الى محاولة تفكيك ما يبدو انه تجمع إقليمي يمكن ان يكلفها الكثير على مسارات إقليمية عدة، وله بالطبع، اذا ما سمحت باستمراره، آثارٌ على نفوذها الدولي، المحرَج والمجروح أصلاً لأسباب اقتصادية داخلية. وهكذا، بدأت واشنطن وعواصم الاتحاد الأوروبي تزيد من ضغوطها على «حليف إيران على المتوسط»، خصوصاً أنها علمت ببعض «التوسعات» العسكرية السورية التي تتجاوز الخطوط الحمر بالنسبة الى تعاونها مع كوريا الشمالية، تمثلت في بناء منشأة نووية قرب دير الزور (دمرتها القاذفات الإسرائيلية في أيلول/ سبتمبر 2007) وإنتاج أنواع من الصواريخ والأسلحة ممنوع دولياً على غير اسرائيل في المنطقة امتلاكها. حدود استخدام الإقليم يكفي هذا التوصيف العام للوضع السوري في الإقليم المرتبط بالوضع الدولي منذ السبعينات حتى اليوم. الا أن النظام السوري لم يتنبه، في غمرة تهنئته المستمرة لنفسه على استخدام الإقليم الى الشرق والى الغرب من حدوده، ككيانات حلوبة، الى التغييرات الجارية على الصعيد الوطني الداخلي، فهو استطاع بمساعدة حلفائه في لبنان، تجاوُزَ النكسة التي أصابته في 2005 عندما اضطر الى إنهاء وجوده العسكري هناك على عجل بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وتحول الى استخدام هؤلاء الحلفاء للقيام بمهماته المباشرة بنجاح. وربما يكون هذا قد شجع دمشق على التخلي عن سياسة «إحناء الرأس أمام العواصف عندما تهب»، التي كان قد برع فيها الرئيس السابق حافظ الأسد. أما على صعيد الداخل السوري، فإن النظام اعتبره محصناً ضد أي تعبير مماثل لما جرى بداية هذا العام في تونس ومصر، وبعدهما ليبيا. لكن، سرعان ما انتفض الوضع الشعبي الداخلي في المناطق الريفية وشبه الريفية، التي كانت تُعتبر خطوطَ الدفاع الأولى عن النظام، وتبين في ما بعد، أن هذا النظام وان كان قد فتح ابواب الارتقاء الاجتماعي والاقتصادي لهذه المناطق في السبعينات والثمانينات، الا أنه أهملها إهمالاً فادحاً منذ التسعينات، فانضم شبابها الذي حصل على قسط من التعليم، الى جيش العاطلين عن العمل وإن كان بعضهم سجل اسمه في قوائم الحزب ومناصريه. ووفق بعض الروايات، فإن بعض المتنفذين الحديثي النعمة غير الحلال وذوي الأصول الريفية، تخلوا عن انتمائهم المحلي ودخلوا في حالة إنكار هويتهم الريفية و «تدمشقوا» اجتماعياً واقتصادياً (يروي مثقف سوري أنه كان برفقة أحد هؤلاء عند مرور السيارة التي كانت تقلهما بالقرية التي نشأ فيها الحديث النعمة، فأشار اليها المثقف بصفة مسقط رأس المتنفذ «العصامي»، فما كان من هذا الا أن قرعه على إشارته تلك وأوقف السيارة وأطلق طلقات عدة من مسدسه على اشارة الطريق التي تحمل اسم قريته الأصلية، شاتماً إياها وصارخاً بأنها زالت من الوجود!). وتغلبت شهوة الغنيمة عند شلة الحاشية والأقرباء، فتوسلت أذرعة الدولة -غير المدنية- للاستيلاء على مساحات من الاراضي الريفية بحجة استملاكها للنفع العام، فإذا بها تنتهي بالانتفاع الخاص أو الخصوصي جداً. أما سياسة «الانفتاح الاقتصادي» على الطريقة الساداتية لمصلحة كبارالتجار، خصوصاً في دمشق وحلب (وهم الذين يمسكون بخيوط شبكة العلاقات مع تجار الطبقة الوسطى) الى اي مذهب انتموا، ولمصلحة شركائهم في السلطة، فقد أدت الى تفشي ظاهرة «تحالف التجار والضباط» (خصوصاً ضباط الأمن السياسي)، والى اغراق الأسواق السورية بالمصنوعات الاجنبية الصينية والتركية الرخيصة، فضربت الحرفيين في لقمة عيشهم التي لا تزيد عن الكفاف. كل هذا، اضافة الى الإهانات اليومية التي يوجهها النظام الى المواطنين بترفيع قدر المهربين والمرتشين واستبعاد ذوي الكفاءة، وتوظيف ذوي القرابة، وبث العيون على كل شريف، وإهانة ذكاء كل فهيم، والقضاء على الحياة السياسية والحزبية والنقابية والثقافية. كل هذا أدى الى شعور عام بالإحباط الداخلي الذي ينتظر شرارة ما للانفجار، وقد جاءت هذه الشرارة، على غير توقع، لا من مصدر واحد بل من مصدرين. الداخل والخارج كان المصدر الأول والمباشر للشرارة قوة «المثال العربي» في تونس ومصر وليبيا، الذي أعاد الى المواطن العربي ثقته بنفسه وبقدرته على تغيير وضعه البائس، ولو بأثمان دامية باهظة. أما المصدر الثاني غير المباشر لاندلاع الشرارة فكان الضعوط الخارجية، حيث تراجعت قدرة النظام على المناورة باستغلال التناقضات الإقليمية، ففقد الدعم السعودي بعد إصراره على الانفراد، مع حليفه الإيراني، في تسيير الوضع اللبناني. كذلك، خسر الدعم القطري المالي والاعلامي بعدما انقلب على اتفاق الدوحة «اللبناني» الذي رعته العاصمة القطرية في 2008، ثم فقد الدعم التركي الذي كان اشتراه الرئيس حافظ الأسد بتسليم الزعيم الكردي عبد الله أوج ألان لأنقرة عام 1999، بعد رفضه اقتراحات الإصلاح التي قدمها وزير خارجيتها أحمد داود أوغلو. كذلك خسرت دمشق الفرصة الأوروبية التي رعتها فرنسا، الساعية عند وصول الرئيس ساركوزي الى قصر الاليزيه في 2007 الى استجلابها، من خلال تقديم اغراءات اقتصادية وضمانات لدورها الإقليمي، خصوصاً في لبنان. إذاً، تقاطعت المصالح الأجنبية مع المصالح الشعبية والوطنية السورية بصورة غير متوقعة، وغير مخططة، في لحظة فارقة في تاريخ المشرق وتاريخ سورية. وتصادف التقاء هاتين العاصفتين وتداخلهما على غير موعد في سماء دمشق، لذلك، استطاع النظام الاشارة الى النوايا الأجنبية واستطاع المقاومون الاشارة الى دماء الآلاف من المواطنين على طول مساحة الوطن السوري وعرضها. الا أن مآل الوضع الداخلي وخط سيره قد يطول بعض الشيء بسبب موقف روسيا والصين المتردد على الساحة الدولية، فموسكو وبكين لا ترغبان في تكرار التجربة الليببية التي خرجت منها أميركا والاتحاد الأوروبي بنسبة كبيرة من الأرباح الاقتصادية. غير أن السبب الأساس الغائب عن تفسير توجسهما من قرار دولي يسمح لدول مجلس الأمن بالتدخل في المسألة الداخلية السورية، هو أن لديهما هما بالذات أوضاعاً مع أقليات إثنية أو دينية داخل حدودهما الإقليمية (مثل وضع الأيغور على حدود الصين الغربية ووضع جورجيا والشيشان على حدود روسيا الجنوبية) قد تتطور الى ما يشبه الوضع السوري الحالي، وهما بالتالي لا ترغبان في تسجيل سابقة قد تحرجهما مستقبلاً. ويبدو أن الدولتين تشعران أن دول حلف الناتو تجاوزت مهماتها القاضية بتوفير فرض مناطق حظر جوي لحماية المدنيين في ليبيا، وطورت ذلك خارج التفويض المعطى لها من الأممالمتحدة الى قصف مواقع العقيد القذافي وكتائبه في كل مكان، حتى بعد تدمير جميع طائراته ودفاعاته الجوية. أضف الى ذلك أن موسكو، على ما يبدو، تضغط على تركيا لعدم القيام بخطوة إنشاء منطقة عازلة على حدودها الجنوبية مع سورية، كما كانت أنقرة المترددة قد وعدت أكثر من مرة. كما أن دول حلف الناتو -على عكس ما كان موقفها في ليبيا- مترددة في الانسياق للتدخل في سورية، لأنها تدرك أن حلفاء دمشق المدججين بالسلاح في لبنان قد يعرّضون قوات اليونيفيل العاملة في الجنوب للخطر، إذا ما تلقوا الاشارة، ولا ضرورة للتذكير بأن وحدات فرنسية وايطالية وتركية تشترك في تركيبة هذه القوات! لكن الكيل كان قد طفح بمعظم دول الجامعة العربية وزادت الضغوط الشعبية (وربما الدولية) عليها، فكان لا بد لها بعد انتظار دام أكثر من أربعة أشهر، من مبادرة أُريد لها أن تخفف من الأزمة السورية الداخلية (والخارجية)، ومن اتخاذ موقف ولو وسطي، فكان قرار تعليق عضوية وفد دمشق الى مجلس الجامعة في الأسبوع الماضي، انما دون الطلب من الهيئات الدولية اتخاذ موقف محدد، وهو موقف غير حاسم إلا في البند المتعلق بدعوة الجيش النظامي الى القيام بعمل ما، وكأنه يوجه الاتهام الى الكتائب الخاصة والشبيحة المقاتلة من دون روادع إنسانية. وهناك من ينتظر تطوراً في موقف النظام في اجتماع وزراء الخارجية العرب في المغرب. لكن استدارة النظام ليست هينة، خصوصاً أن مراكز القرار فيه متعددة غير موحدة. وهذا ما بدأنا نراه في تناقضات الديبلوماسية السورية المرتبكة بين المجابهة والمهادنة. والواقع أن نتيجة رفع الغطاء الرسمي العربي عبر جامعة الدول العربية عن النظام السوري لن تكون بسيطة، ويجب النظر اليها على أنها آخر خطوة عربية قبل تشجيع تركيا على اتخاذ قرار بالنسبة الى منطقة حماية المدنيين، قرار قد يؤدي الى انفجار إقليمي كبير، علماً أن إيران وحزب الله يُؤْثِران التريث على سرعة الاندفاع، وقد جاءت ردود أفعالهما على قرارات الجامعة العربية باهتة الى حد ما. فهل تسعى دمشق للمحافظة على شعرة معاوية مع تحالفها القديم المضمر مع أميركا، أم تُؤْثِر وضع نفسها بتصرف حليفها الإقليمي الإيراني الذي لا يبدو أنه ملتزم معها التزامها معه نفسه؟ والأهم من هذا وذاك، هل تستطيع العاصمة السورية استيعاب حقيقة أن حركة الشارع السوري ذات حيثيات داخلية صادقة يجب احترامها والتعامل معها بجدية؟ أم أنها ستظل مصرة على المكابرة بأن السوريين يقدّمون أنفسهم بكرم لافت قرابين على مذبحي واشنطن وتل أبيب؟ على الجميع أن يصابوا بالرعب لأن النظام أوصل المواطن الى نقطة اعتبر فيها أن بقاءه على قيد الحياة الكريمة أولوية، ولو خدم ذلك، من دون أن يدري وبشكل ثانوي، بعضَ القوى الخارجية. ولم لا؟ اليس النظام على علاقة، ولو متوترة حالياً، مع تلك القوى نفسها؟ ان الشعب الذي ينزف باستمرار لا يستطيع بناء دولة ذات عضلات، خصوصاً في حال انفصام الدولة المقصود عن المجتمع، لذلك فإن النظام يبدو متفاخراً بكتائب الشبيحة التي ملأت شوارع البلاد من دون التنبه لما يعنيه ذلك من نزع الشرعية عن الحكم والجيش الوطني السوري. تأثير واسع مجرى الأحداث في سورية سيؤثر حتماً على لبنان والعراق في حال استمرار الأزمة وتطورها ببطء واستنزافها الأطراف المشتركة فيها. وهو قد يأخذ، على العكس، مجرى انفجارياً هائلاً اذا كان الرئيس الأسد والسيد نصر الله يعنيان ما يقولان من دون أن ينتظرا موقفاً شبيهاً ولا شبهة على وضوحه من إيران! فلا شك في أن المستقبل الآتي مفتوح على احتمالات كثيرة تلف المشرق برمته، منها ما هو مطمئن ومنها ما هو مخيف. الا أن النظام في مأزق اليوم، فلا هو يستطيع التقدم الى الأمام لحل المشكلة الوطنية بعد أن عسكرها، ولا هو يستطيع التراجع، لان ذلك سيترجم على انه وصول الضعف الى مراكز متقدمة فيه. وقد لا ينقذ الوضع سوى خطوة دراماتيكية من المستبعد حصولها على المستوى الإقليمي. مع هذا كله، وفي غمرة التعليقات والتحليلات السياسية والاستراتيجية (والطائفية في بعض الأحيان)، يجري تناسي البعد الاخلاقي والانساني في الوضع السوري، حيث يموت المدنيون والمحاربون المسالمون بالآلاف، وتقصف البيوت وتدمر المساجد والمنتديات، ولا مَن يعتبر أن الأولوية الأولى يجب أن تكون للشأن الإنساني قبل كل حساب. هذه اللامبالاة فظيعة بكل مقياس، الا أنه يبدو أننا في الطريق الى التخلي عن خيار «ما باليد حيلة» الذي لا صدى له في بلدات سورية وقصباتها. لا نمتهن التنبوء بالغيب بالتأكيد، لكن يبدو أن ما هو آت لا محالة آت وإن طال الأمر أكثر من الأشهر الثمانية التي انقضت واستمر شلال الدم في الجريان. إنما الكتابة أصبحت منتشرة على اللافتات المرفوعة والجدران المهدمة، وما يجري اليوم في حمص وأخواتها من المدن والبلدات السورية أمام سمع العالم وبصره، هو غير ما جرى في حماة في 1982 في الظلام، حين كان العالم بعيداً من الأسماع والأبصار. ولا نعرف ما اذا كانت الأمور ستأخذ في المشرق الطريق الدامي الذي أخذته في ليبيا وقبلها العراق وتأخذه في اليمن أو الطريق الأقرب الى السلمية (المحمية بالمؤسسة العسكرية الرسمية) الذي أخذته في تونس ومصر. أما إذا كان هناك مسوغ للتفاؤل بالأوضاع العربية الجديدة عموماً، فنقول: الأمة العربية تتوجع، وستتوجع كثيراً، لكنها قد تلد كبيراً ولو بعد خيبات وتعقيدات ومخاضات وانتظارات طويلة بعض الشيء. * أستاذ جامعي لبناني في التاريخ الحديث