شهدت الدورة السادسة والثلاثون لمهرجان السينما الدولي في مونتريال، والتي اختتمت فعالياتها قبل يومين، تظاهرة سينمائية كبرى هي واحدة من الأضخم في الشمال الاميركي. وشارك فيها 542 فيلماً، منها 212 فيلما طويلاً، و126 فيلماً عُرضت لأول مرة في صالات مونتريال، و144 فيلماً قصيراً، و60 فيلماً لطلاب السينما الكنديين. وقد بدا واضحاً ان مجمل هذه الافلام تعكس مخزوناً ثقافياً اجتماعياً انسانياً عائداً ل80 بلداً في القارات الخمس. عن هذه المشاركة العالمية الواسعة، قال مسؤول المهرجان سيرج لوزيك اثناء الافتتاح: «نحن نسعى الى تشجيع التنوع الثقافي واكتشاف المواهب الشابة وتوفير المناخات المثالية للقاء صنّاع الفن السابع من مخرجين ومنتجين». ويتميز المهرجان عن غيره باستقلالية تامة، لجهة عدم تبعيته لأي حكومة او منظمة او جمعية، وعرضه عشرات الافلام في الهواء الطلق ونقلها الى الجمهور على شاشات عملاقة نصبت في شارع سان كاترين، قلب مونتريال السياحي والتجاري. فضلاً عن انه يشكل سوقاً سينمائياً عالمياً تجري فيه عمليات التمويل والتبادل بين المنتجين والموزعين للأعمال الروائية الطويلة والقصيرة والوثائقية والتلفزيونية، وإتاحة المجال للجمهور فرصة اختيار الفيلم الاكثر شعبية عن كل فئة. الحضور العربي يلاحظ ان الحضور السينمائي العربي في مهرجان مونتريال يتفاوت بين سنة واخرى. ففي عام 2010 كانت المشاركة العربية هزيلة لا تتعدى خمسة افلام، في حين قفزت العام المنصرم الى عشرين، وتراجعت هذا العام الى ثمانية، ستة مشرقية واثنين للمغرب العربي، وجميعها ناطق بالعربية. واللافت ان مصر، واجهة العرب في المهرجانات العالمية، غابت هذا العام عن حلبة التنافس الدولي، اذ اقتصرت مشاركتها على ثلاثة افلام تتناول جوانب مختلفة من الحياة الاجتماعية والاقتصادية والصحية، بما فيها من آلام وآمال: ففي فيلم «أسماء» (درامي، 94 دقيقة)، يستعرض المخرج عمرو سلامة مجمل الاحداث التي تدور حول شخصية البطلة هند صبري (أسماء) المصابة بمرض نقص المناعة–الايدز. ويطرح إشكالية الإصابة بهذا الداء «المشين» الذي ينكره المجتمع ويعتبره وصمة عار، في حين تصر المريضة به على حقها في العلاج وتقاوم المعتقدات البالية وتصارع من اجل البقاء، ليس لشفائها وحسب وانما لتجعل من الايدز حالة انسانية تبعث الامل بالحياة. وفي سياق متصل بدور المرأة المصرية، تكشف المخرجة حنان عبدالله («في ظل رجل» فيلم وثائقي 65 دقيقة) عن صور سيدات مصريات يقدن التظاهرات ويتصدّين بشجاعة لعنف رجال الشرطة ويهتفن لإسقاط النظام. في الفيلم تتحدث اربع نساء منهن عما يمكن ان يكون عليه مستقبل المرأة في اعقاب الثورة المصرية ودورها في عملية التغيير من النواحي الاجتماعية والاقتصادية والثقافية. أما «بحري» (فيلم قصير –13 دقيقة– للمخرج احمد غنيمي)، فيتحدث عن مجتمع مهمش في بعض أحياء الإسكندرية، يشهد اضطرابات اجتماعية مستمرة نتيجة الفوارق الطبقية التي تحول دون تواصل الناس بعضهم مع بعض وتفاعلهم في ما بينهم. اما سورية ولبنان وفلسطين، فتَمَثَّلَ كلٌّ منها بفيلم واحد: «اوتيل كندا» (وثائقي 30 دقيقة) للمخرجة السورية عليا خاشوق، ويطرح مسألة الهوية والانتماء، من خلال ثلاثة اصدقاء مهاجرين من ثلاثة بلدان عربية. وهو يتمحور حول فكرة هل أصبحت كندا لهؤلاء المهاجرين وغيرهم «اوتيلاً» او وطناً بديلاً؟ اما الفيلم اللبناني الروائي «الوقت ثانية» (92 دقيقة للمخرجة اللبنانية لارا سابا)، فيسلط الضوء على مفهوم القدر كقوة تتحكم بمصائر البشر، وذلك من خلال الحديث عن ثلاث شخصيات بيروتية لكل منها قصة مختلفة، فيما القاسم المشترك هو التساؤل عما يحصل لكل منها وربطه بفعل القدر او بمشيئة الله او بقرار انساني او غير ذلك؟ ويختتم المخرج رامي عليان العروض المشرقية بفيلم فلسطيني («عزلة تحت الشمس» مدته 25 دقيقة) يروي قصة مريم، التي تشكو من نقص فيتامين «دي» الذي يسبب لها مرضاً في العظام، وهي تأخذ، وفقاً لنصيحة الطبيب، حمام شمس يعوض لها هذا النقص. إلا ان قيامها بهذا العمل أثار حفيظة الاهل والجيران، لمخالفته الأعراف والتقاليد الاجتماعية. سينما من المغرب اما من المغرب العربي، فيسلط فيلم «التائب» (78 دقيقة) للمخرج الجزائري مرزاق علوش، الضوء على مفارقات ميثاق «السلم والمصالحة الوطنية «الذي اقرته السلطة الجزائرية، وذلك من خلال حكاية بطل الفيلم رشيد، الذي لم يلق ترحيباً من اهل القرية، اذ ما زال في نظرهم ارهابياً رغم اطلاق سراحه. بعد فترة قصيرة، يغادر رشيد القرية للبحث عن حياة جديدة، لكن الماضي يكون له بالمرصاد. ويركز الفيلم على ظاهرة «الصمت» الذي ما زال مرتبطاً بالماضي ومفتوحاً على الحاضر من خلال استمرار الازمات الاجتماعية والاقتصادية والمعيشية. ويبدو ان حظ تونس كان أوفر، إذ أتى فيلم «انطلق» للمخرج احمد زرن، ليبيِّن ارادة الناس البسطاء في صنع ثورة الياسمين، اولى ثورات الربيع العربي، على خلفية ازمات اجتماعية اقتصادية، علماً ان الفيلم يلوِّح الى اختطاف الاسلاميين للثورة. اما أبرزالاعمال السينمائية ذات الانتاج العربي الاجنبي المشترك، فتمثَّلَ بفيلم «اسمي ليس علي»، او ما يُعرف ب «جنة علي» (مدته 93 دقيقة)، وهو إنتاج مصري ألماني للمخرجة فيولا شفيق. الفيلم يبحث في العلاقة الشائكة بين ثقافة الغرب والشرق من خلال البحث عن الممثل العربي الذي كان قبل عقود قد قام ببطولة فيلم شهير للمخرج الألماني الراحل فاسبندر وكان حينها يقيم في ألمانيا. ويندرج الفيلم في إطارالمواقف المناهضة للعنصرية والاضطهاد الاجتماعي وبقايا النزعة النازية المعادية للعرب. ومهما يكن من أمر، تبقى المشاركة العربية، على تواضعها ، في المهرجانات العالمية مؤشراً إيجابياً على مستقبل الفيلم العربي، على أمل أن يرتقي إلى درجة متقدمة من الإبداع الفني والثقافي والفكري.