ربما كان هدف نيل التقدير والاعتراف، هو أكثر المقاربات تفسيراً للصراع بين إيران التي تدعي لنفسها رسالة ثورية تنغمس في الطموحات القومية، وإن تدثرت بأردية دينية، وبين الولاياتالمتحدة التي طالما ادعت لنفسها دوراً رسالياً في قيادة العالم بأفكار تراوحت بين التحررية والهيمنة، ودعاوى مزجت بين التبشير والغطرسة، وهو دور غالباً ما يجمع بين المثالية والبراغماتية في تناغم مثير، ولكنه يصطدم دوماً بالادعاءات المثيلة أو المشابهة لدى الأمم والكيانات الأخرى مولداً الكثير من الأزمات ومفجراً أعقد الصراعات. جوهر هذا التفسير إذاً هو أن الولاياتالمتحدة الأميركية كثيراً ما تعجز عن التعامل مع الكيانات القومية والعقائدية التي تجعل من قضية نيل التقدير والاحترام لذاتها أو لعقائدها هدفاً أساسياً. ويرجع ذلك العجز إلى حقيقة أن العقل الأميركي العام هو عقل براغماتي، ليس بالمعنى السيئ الملتبس بالانتهازية والنفعية، ولكن بالمعنى المحايد، كونه واقعياً، يقيس الأشياء والمواقف بنتائجها العملية وليس بمثالياتها الملهمة، إذ تشكل هذا العقل ونما في سياق البحث عن «السعادة» في أرض «الفرص الكبرى»، ومن ثم فهو يقيس كل المواقف بذهنية ما تمثله من ربح «مادي ومعنوي» تحقيقاً للوفرة أو التفوق، ولا يستطيع أن يقدر تماماً ما تعنيه فكرة «الكرامة القومية» للكثير من الأمم والشعوب، خصوصاً العريقة منها. وفيما يتعلق بإيران، تتجاهل الرؤية الأميركية صعوبة التضحية بالقدرة النووية التي التف حولها الشعب والنظام على السواء، إذ صارت عنواناً على الكبرياء القومي، ومبعثاً للشعور بالكرامة لدى الإيرانيين. ومن ثم فإن شن حرب على إيران هو أمر لا يمكن تقديره بأقل من «الخطأ الفادح»، ليس فقط لوهن دوافعها، بل وأيضاً لخطورتها وصعوبة توقع نتائجها. وعلى رغم اعترافنا بوجود تفوق استراتيجي حاسم لمصلحة الولاياتالمتحدة الأميركية، إلا أن الحرب لا تحسم بالقوة العسكرية وحدها، بل لا بد لها من قوة معنوية تسندها وتوجهها، ترتكز على وضوح الهدف، ونبل الغاية، وهذان الأمران غير متوافرين لأي عدوان أميركي على إيران، فهذه الحرب، إذا ما اندلعت، ستكون بين طرفي نقيض: أولهما وهو الطرف الأميركي يفتقد القوة المعنوية برافديها، وإن حاز أعلى درجات القوة العسكرية، فلا الشعب الأميركي يعاني حقيقة أخطار عدوان إيراني يبرر خوض حرب وقائية، ولا تلك الحرب الأميركية إن وقعت ستزيد من سلام العالم أو أمنه، فلا غاية لها سوى استعراض القوة وتجريب السلاح الجديد، وإرضاء غرائز المجمع الصناعي - العسكري الذي لا ينتعش سوى على وقع الحروب، ولا يهنأ سوى بحفلات الدم. يزيد من خطر غياب الأمرين حقيقة أخرى وهي أن الوعي العام الأميركي، السياسي والاجتماعي، هو وعي مهجوس بالبحث عن السعادة، ما يضع قيوداً، بل سدوداً، أمام اندفاعاته عندما يلوح له في الأفق أن خياراته العسكرية تبعث على الألم أو تستنزف الدماء، ومن ثم تتطلب تضحيات كبرى تبدو في تصوره غير ممكنة أو مبررة طالما تُنقص إحساسه بالسعادة وتزيد من شعوره بالشقاء، فإن لم تنل من الدماء فإنها ستزيد من الأعباء الاقتصادية، وتقلل من بريق «الحلم الأميركي». أما ثانيهما وهو «الإيرانى» فيحوز أقصى درجات القوة المعنوية وإن افتقر إلى التوازن مع القوة العسكرية الأميركية، إذ يمثل الوعي الإيراني العام وعياً نضالياً بامتياز، تتكاثف في شخصيته الحضارية تقاليد تاريخية عريقة، ومذهب اعتقادي مجبول على التضحية، وروح قومية ناجزة تجعله يستميت في الدفاع عن كرامته باستدعاء كل مخزونه النفسي من دون قيود أو حدود لما يمكن أن يتحمله من ألم إنساني، أو كلفة اقتصادية. وفي حال كهذه لا يكون أمام الطرف الأقل رغبة في التضحية، والأقل قدرة على تحمل الألم، مهما كان حجم قوته، إلا الانسحاب أو التوقف، فحتى لو كانت الهزيمة الكاملة غير واردة، فإن الانتصار الحاسم غير قائم، ولا متصور. يفضي مخزون الحكمة التاريخية إذاً إلى رفض التورط في مثل هذه الحرب، بل وكبح جماح إسرائيل عنها، على نحو يجعل مقاومتها هي المهمة الأكثر نبلاً وتعبيراً عن خصوصية رجل مثل أوباما يدرك عميقاً أهمية الشعور بالكرامة القومية لدى شعب كان هو نفسه قد اعترف له في رسالة مباشرة بدوره الحضاري الكبير ومساهمته العميقة في مسيرة التاريخ الإنساني، كما يدرك أن استخدام العنف يؤدي إلى تصليب المواقف، وأن التعامل الحكيم يفتح الطريق لعلاج المشكلات كافة. غير أن المشكلة ليست في حكمة أوباما، ولكن في قدرته على مواجهة الضغوط، سواء تلك التي تمارس عليه من خارجه، أو تلك التي تنبع من داخله، حينما تقود أحلام الرئاسة إلى نزق السياسة، ويغطي كرسي الرئيس على مهمة صنع التاريخ. * كاتب مصري