يشي المسار العام للمشكل النووي بين إيران والغرب، بوجود أهداف «عسكرية» للبرنامج الإيراني، وأن الغاية الأساسية له هي حيازة «السلاح النووي» وليس مجرد امتلاك الطاقة النووية التي تمتلك إيران الكثير من بدائلها، ما يجعلها هدفاً ثانوياً لا يستحق الصدام من أجله مع القوة العظمى المهيمنة على عالمنا المعاصر، إلا إذا كان العقل السياسي الإيراني عبثياً، وهو ما لا نعتقده. ويبدو كذلك أن إيران ستستطيع في الأغلب الإفلات بالغنيمة النووية لأسباب ثلاثة أساسية: الأول يتعلق بالعقل الاستراتيجي الأميركي نفسه والذي يبدو مرشحاً ببراغماتيته المعروفة، للقبول في النهاية ب «إيران نووية». فعلى عكس الشعور المصطنع بالمفاجأة ثمة تفكير في هذا السيناريو منذ عشر سنوات أثاره مفكر استراتيجي بحجم صامويل هانتنغتون في كتابه الأشهر عن «صدام الحضارات»، مجادلاً في أن وجود خيار نووي إيراني موازن للسلاح النووي الإسرائيلي، على منوال التوازن القائم بين الهند وباكستان، يبدو أمراً متصوراً. بل ونجادل نحن بأنه قد يكون مفيداً لإنجاز تصور التيار الديموقراطي «الليبرالي» الأميركي حول مستقبل الشرق الأوسط إذ يقلل من درجة التعنت الإسرائيلي الذي تنامى كثيراً في ظل وجود شارون ثم نتانياهو، والذي ربما كان أحد ملامحه النهائية المطالبة بإقامة منطقة خالية من أسلحة الدمار الشامل، وهو خيار مثالي لا يمكن إسرائيل القبول به إلا في ضوء امتلاك طرف مناوئ له بحيث يكون النزاع متبادلاً. وفي ظل غياب القدرة النووية العربية، تمثل إيران هذا الطرف الإقليمي باقتدار، ليس لأنها تحوز «القنبلة الإسلامية»، ولكن لأنها تثير مخاطر الانتشار المتزايد وهو سيناريو بالغ الخطورة لابد أن يحرك الولاياتالمتحدة نحو فرض حظر شامل على المنطقة، وقد يحفز إسرائيل على قبوله لإدراكها خطورة الفوضى على وجودها. يضاف إلى ذلك حقيقة أن القدرة النووية الإيرانية، حتى في حال امتلاكها السلاح النووي لا تمثل أدنى خطورة على الولاياتالمتحدة كما يتم الزعم أو كما تقول الدعاية الأميركية، سواء لأن إيران، وعلى رغم خطابها السياسي المتشدد تبدو عقلانية بما يكفي لكبح جماح نفسها عن الاستخدام العدمي لهذا السلاح، أو لأنها تدرك أن استخدامه في غير أغراض الردع يكفي مبرراً لأن تقوم الولاياتالمتحدة بإبادتها نووياً. ما يعني أن العقل الاستراتيجي الأميركي قد يبدأ في التكيف مع هذا الخيار إذا ما صاحبه موقف إيراني يرتكز على الإصرار وهو قائم فعلاً، وكذلك على مزيد من الاعتدال في قضايا المنطقة الأخرى، وهو ما نتوقعه، وعلى تقديم ضمانات بعدم تسريب التكنولوجيا النووية إلى أطراف أخرى في المنطقة، وهو ما ستطلبه الولاياتالمتحدة، وسترحب به إيران. والثاني: هو صعوبة الخيار العسكري في ظل الحضور القوي لروسيا والصين حيث تمثل إيران لهما الكثير نتيجة للقرب الجغرافي، والتجاذب الاستراتيجي، والشراكة الروسية الإيرانية في الهيمنة على مقادير، أو المشاركة في إلهام التطور السياسي لمسلمي آسيا الوسطى والقوقاز الخارجين من عباءة الاتحاد السوفياتي، ولكنهم باقون في فضاء الجذب الروسي، وشيء من هذ القبيل يمكن المحاججة به في ما يتعلق بالصين. وإذا أضفنا إلى ذلك، التطور الملموس في العلاقات الروسية الصينية بعد الحرب الباردة ما جعلها أكثر تعاوناً حيال مشاكل الحدود التي تم حلها، والقوات العسكرية على جانبي الحدود والتي تم تخفيضها والتوقف عن توجيه الصواريخ النووية صوب الآخر، والأهم من ذلك ما وجدته روسيا في الصين من عميل متحمس لاستيراد المعدات العسكرية والتكنولوجية بما فيها الدبابات والطائرات المقاتلة وقاذفات القنابل طويلة المدى وصواريخ أرض جو، وكذلك التجارة التي اتسعت بينهما في العقد الماضي. نقول إذا أضفنا هذا البعد الذي أنتج دعوات مشتركة إلى «عالم متعدد الأقطاب» والى «شراكة من أجل السلام» يمكننا تصور قدرة كبيرة من قبل الطرفين على تحدي الخيار الأميركي المسلح ضد إيران. أما الثالث فيتعلق بإيران نفسها، وإصرارها الواضح على خيارها، وتمكنها مراراً من أخذ موقع الفاعل، وتجاوز موقف رد الفعل. وبقدراتها المتصاعدة على حيازة وتنمية دورها في استراتيجيات المنطقة عبر الأوراق التي تتوافر لها. كما ان خبرة العدوان على العراق غير قابلة للتكرار مع إيران ليس فقط لأنها تمتلك أوراقاً استراتيجية أكثر، ولكن لأن إيران في الأصل مختلفة عن العراق، فهى ليست معتدية على جيرانها، ونظامها السياسي ليس مكروهاً عالمياً كنظام صدام حسين، بل يعتبره بعض المنظرين الأميركيين بحجم بريجنسكي، وصامويل هانتنغنتون، نموذجاً للثورة الدينية، ويقارن بعضهم (فريد هاليداي)، بين الخميني ونابليون بونابرت ما يجعل من إحكام الحصار حول إيران مهمة أشق كثيراً من إحكامها حول العراق. كما يجعل قرار الحرب ضدها لا يقل عن مستوى «الخطأ الفادح» الذي ربما يقود الولاياتالمتحدة إلى الهزيمة وربما الإذلال. وتنبع احتمالات هذا المصير من حقيقة أن هذه الحرب ستندلع بين طرفي نقيض، أحدهما يمثل وعياً سياسياً واجتماعياً مهجوساً بالبحث عن السعادة ما يضع قيوداً بل وسدوداً أمام اندفاعاته عندما يلوح لها في الأفق أن خياراته العسكرية تبعث على الألم أو تستنزف الدماء، ومن ثم تتطلب تضحيات كبرى تبدو في تصوره غير ممكنة أو مبررة طالما تبعث على الألم الإنساني أوتزيد من التكلفة الاقتصادية وتقلل من بريق «الحلم الأميركي». أما الآخر فيمثل وعياً نضالياً نقيضاً تتوافر لديه بل تتكثف في شخصيته الحضارية تقاليد تاريخية عريقة، وروح قومية ناجزة، ومذهب اعتقادي مجبول على التضحية، ما يجعله يستميت في الدفاع عن كرامته القومية باستدعاء كل مخزونه النفسي ومن دون قيود أو حدود لما يمكن أن يتحمله من ألم إنساني، أو تكلفة اقتصادية. وفي حال كهذه لا يكون أمام الطرف الأقل رغبة في التضحية، مهما كان حجم قوته، إلا الانسحاب أو الهزيمة. * كاتب مصري