ثمة ملمح استراتيجي برز واضحاً في الجغرافيا السياسة العربية منذ احتلال العراق وهو التدهور النسبي في مكانة القوى المركزية في النظام العربي وبخاصة أطراف المحور الثلاثي الذي كان قد هيمن على اتجاهات القرار العربي منذ ساند الشرعية الدولية في حرب تحرير الكويت، وذلك بتأثير الحضور الأميركي المغاير في ظل اليمين المحافظ، والذي استحال ضاغطاً على المنطقة، غير قانع بأنماط التأثير السابقة فيها عبر التفاهمات مع دولها الكبرى المعتدلة. وقد عبر هذا التطور عن نفسه في ظواهر ثلاث أساسية عانى منها الواقع العربي في السنوات الست المنصرمة: الأولى هي بروز مفتعل لدول صغرى صارت تلعب أدواراً استثنائية تفوق طاقاتها الطبيعية ضد التوجه الإستراتيجي العربي العام، وذلك بقفزها على التوازنات العربية في أكثر من مناسبة وفي غير اتجاه، على منوال قطر مثلا، وما كانت أقامته من علاقات اقتصادية مع إسرائيل دون ضرورة سياسية أو غاية قومية قبل سنوات، أو مد جسورها الآن نحو إيران على حساب علاقاتها بمصر والسعودية. وأيضاً الدور المربك الذي تلعبه ليبيا، وأعني هنا الرئيس الليبي معمر القذافي وسعيه إلى إشاعة الضوضاء في التجمعات العربية بحضوره الزاعق وقدرته على إثارة قضايا جانبية، وإشعال حرائق مفاجئة تستقطب جهداً كبيراً لإطفائها من الجهد العربي المحدود أصلا، والذي لا يكاد يكفى مواجهة الأعباء الملقاة على الدول والقيادات الأكثر جدية ومسئولية في آن. ناهيك عن الإرهاق الذي كان أوقعه على كاهل النظام العربي لنحو العقد أو أكثر، دفاعاً عن سياساته الملتبسة التي قادت إلى حصار بلده، وانتهت به إلى الانقلاب الزاعق على جل سياساته ب 180 درجة. والثانية هي بروز حركات المقاومة المسلحة على منوال «حزب الله» و «حماس»، واحتلالهما المكان الأبرز في ساحة التفاعلات العربية وفي حفز الأحداث وصناعة المواقف، وإثارة الاهتمام لدى الشارع السياسي. هذا البروز يبقى أمراً إشكالياً لأنه من ناحية يمثل إضافة إلى القوى الحية في عالمنا العربي وخصوصاً في القضايا المثارة مع إسرائيل، وربما يملأ فراغاً فعلياً قائماً، لولاه ما كان بروز أو تمدد لتلك الحركات. ولأنه من ناحية أخرى يبقى مربكاً إذ يصنع قرارات خطيرة كالحرب والسلام، تولد أعباء على الأمة كلها، ناهيك عن الدول نفسها، في يد حركات نشهد لها بوطنيتها وقوميتها ونبل غاياتها ولكن تبقى حساباتها ضيقة ومحدودة، وخصوصا في مواجهة عدو شرس وهمجي ليست لديه حدود أو قيود على استخدام آلته العسكرية الضخمة كما تبدى الأمر في العدوان الإسرائيلي على لبنان (2006). وفى محرقة غزة (2008) ، ما يجعل محصلة بروز تلك الحركات سلبية وأحيانا كارثية. وأما الثالثة فتتمثل في الحضور الطاغي، وليس البارز فقط، للقوى الإقليمية الكبرى حول عالمنا العربي، ليس فقط في قضايا الإقليم منظوراً إليها من زاوية السياسة الدولية، بل في قضايانا العربية التي تنبع وتصب في أراضينا ذاتها. هذا الحضور قد يأتي بمباركتنا إذ يعمل على تسهيل حل نزاعاتنا العالقة أو منع تفجير نزاعات جديدة مثل الحضور التركي في العدوان على غزة، وفى محاولة الوساطة بين «حماس» وإسرائيل بمباركة مصر أو عدم ممانعتها على الأقل، وكذلك في الوساطة التركية بين إسرائيل وسورية بمباركة الأخيرة. وخلف مصر وسورية كان ثمة تأييد عربي واسع. ولكنه قد يأتي رغماً عنا كالحضور الإيراني لدى «حماس» والذي كرس خلافها مع «فتح» وعمق القطيعة بين الضفة وغزة، ولدى «حزب الله» حيث زاد من تصلب قراره في مواجهة الإجماع اللبناني، ومنحه قوة فائقة في التركيب اللبناني ربما كان عامل فوضى وهيمنة تتوق إليها إيران لولا حكمة قائده التي أبقت الأمور في الحيز المقبول حتى الآن. ناهيك عن الدور الإيراني في العراق والسودان وغير مكان إلى الدرجة التي جعلت كثيرين داخل المنطقة وخارجها يتحدثون عن تصورين متصارعين حولها أحدهما أميركي والآخر إيراني من دون اكتراث بالوجود السياسي العربي الذي نظر إليه كمجال حيوي. وعلى هذا النحو تقتضي اللحظة الراهنة القيام بعملية فرز دقيقة وسريعة تنسق بين هذه الأدوار جميعاً، والتي لا تمثل شراً مطلقاً، لزيادة عائدها، وتقليل تكلفتها السياسة من وجهة نظر التوجه العربي العام. ذلك أن الدور التركي النشط والمعتدل ربما كان إيجابياً تماماً لامتلاكه بعض مفاتيح الحل لقضايا عربية كثيرة عالقة. وأما الدور الإيراني النشط فليس سلبياً صرفاً، بل يحوى قدراً من الإيجابية فيما لو تم استيعابه إذ يتيح نوعاً من مرونة الحركة إزاء الولاياتالمتحدة بشروط معينة سيلي بيانها. وهو أيضاً عامل مقلق لإسرائيل لأنه يرهق حساباتها. غير أن الأمر الحاسم في تعيين الوجهة النهائية لهذا الدور يبقى متمثلاً في طبيعة علاقاتها بحركات المقاومة. وهذه الأخيرة نفسها ليست شراً مطلقاً، ذلك أن فعالية «حماس» و «حزب الله» هي أمر إيجابي لو تم ضبطها بالتوجه العربي العام، وفصلها عن الغرائز الإيرانية، وهو أمر ممكن فقط فيما لو تم ضبط العلاقة مع إيران كما سوف يلي. وهكذا فإن الدور الإيراني ليس شراً مطلقاً إلا فى إدراك القوى التي لا ترغب سوى في الحفاظ على نمط تحالفاتها الأبدية مع الولاياتالمتحدة، وعلى الإذعان الكامل للمنطق الإسرائيلي باعتباره خياراً وحيد ونهائياً يجمل وصف السلام. ولن تكون عملية الفرز هذه ممكنة إلا باستفاقة أطراف المحور الثلاثي بالذات واستعادتها الإصرار على ملء الفراغ الكبير المتزايد الاتساع الذي أوجده خمولهم السياسي، فتلك الأدوار الاستثنائية ما كان لها أن تنمو إلا على حسابهم، وبفعل انقسامهم. وعليهم أن يدركوا، من ثم، أن استمرار هذا الانقسام سوف يغرى بنمو أدوار أخرى مشابهة ناهيك عن زيادة حدة ما هو قائم منها، وأن التحالفات الراهنة بين أي قوة من هذا المحور، كسورية الآن، وبين أي من هذه الأدوار الاستثنائية إنما هو تحالف قصير العمر بأكثر مما يعتقد. وفي المقابل على طرفي المحور الآخرين مصر والسعودية أن لا يكتفيان بتخطئة الاندفاع السوري تجاه إيران، إذ يتعين عليهما إبداء نوع من التفهم لدوافع سورية، ومحاولة خلق بدائل أمامها على نحو لا يتركها أمام معادلة سياسية ساكنة قوامها طرفين: أولهما، وهو إسرائيل، لا يبدى أي رغبة موضوعية في السلام. والثاني نظام عربي عاجز عن فرض خياره الوحيد والأبدي في هذا السلام، وفي الوقت نفسه عاجز عن ممارسة الخيار النقيض «العسكري». والمقترح هنا خيار ثالث أكثر إمكانية وتاريخية وهو إطلاق ديناميكة سياسية عربية جديدة وغير مألوفة، ليس بمعنى شذوذ الأفق، وإنما بتنويع الأدوات، وتجريب مداخل وفضاءات جديدة للحركة السياسية نحو الخيار السلمي نفسه لا يتوقعها الخصم الذي صار، لفرط وثوقه وتهافتنا نحن، يتوقع منا كل رد لفعله أياً كان، ويوقن بحيرتنا وعجزنا إزاء همجيته مهما بلغت، وهو ما يدفعه إلى اعتبارنا ساحة تجريب لانفعالاته الطائشة من دون توقع لأي ثمن يتوجب عليه أن يدفعه. وهو أمر يتوازى مع توجه مشابه للقرار الأميركي الذي لا يجد نفسه أبداً في حال اختيار بين العرب وإسرائيل، ربما لأن ميولاً ثقافية «صهيو- مسيحية» تحكم مشاعره، وربما لأن اللوبي اليهودي يتحكم في بعض موارده، ولكن المؤكد كذلك أنه لم يجد نفسه ولو لمرة واحدة مطالباً بدفع ثمن انحيازه، ومن ثم فلا دافع موضوعياً لديه إلى تغيير اتجاهاته، وتلك الحالة هي التي يجب التمرد عليها حتى في وجود الرئيس أوباما الذي لا شك في رغبته أن تصبح بلاده وسيطاً نزيها، ولكن عوامل داخلية نقيض ستضغط عليه، ولن يكون قادراً على مواجهتها بشجاعة في مواجهة وعي أميركي براغماتي إلا بإبراز ثمن هذا الانحياز المطلق في وجه معارضيه، ومن ثم فاستقلال مواقفنا وقدرتنا على تفجير رغبة الاختيار لدى إدارته هو أمر يحفز مسلكه الجديد جوهرياً. هذا التمرد السياسي هو ما تحاول سورية أن تقوم به من خلال تحالفها المنفرد مع إيران، ورعايتها لانفعالات «حزب الله» و «حماس» ولكن على نحو مشوه يورط الأمة في أثمان كبيرة، وهو أمر يكاد يفرضه ضعف سورية وقلة خياراتها الموضوعية، والمطلوب الآن وفوراً أن تقوم الجماعة العربية كلها بممارسة هذا التحدي، لأن الأمة مجتمعة تستطيع أن تحقق منها عائداً حقيقياً، من دون تكلفة كبيرة لأن مواردها واستثماراتها السياسية كبيرة ورادعة، بل أن هذه الممانعة فضلاً عن عائدها السياسي، ستمنح الأمة صورة أكثر جاذبية، بدلاً من كآبة الركود، وعفن الجمود الراهن. والتمرد المقصود هنا من الجماعة العربية ليس إلا حركة تتسم بالعقلانية ولكن مع استقلال الإرادة، بالحكمة السياسية ولكن مع العناد القومي، بتوازن الانفعال ولكن مع كبرياء أمة لديها نفوذ وبها مصالح وتستطيع أن تقول لا. هذا التمرد العقلاني، وما يعكسه من ممانعة سلمية له أشكال عديدة في التطبيق يصعب حصرها، ولكن الموقف الراهن يبرز أحد الخيارات بوضوح فيجعله أكثر أولوية وإمكانية. وهو الخيار الإيراني في السياسة العربية، إذ لماذا يترك العالم العربي إيران ورقة ضد نخشاها إذا تحالفت مع سورية، ونهاجمها إذا ما دعَّمت «حماس» و «حزب الله»، ونتوجس منها إذا ما تحاورت مع الولاياتالمتحدة، متوقعين قرب عقد صفقة سياسية بينهما على حسابنا، وذلك من دون أن نحاورها ونتبادل المصالح معها. إننا هكذا نحرمها من حقها في كسر الحصار المحيط بها من دون أن نقدم لها بديلاً وتلك هي النرجسية السياسية بعينها. والأغلب أننا نتردد في الحوار معها لأن الأميركيين جعلوها صنماً محرماً، والمصيبة أننا قد نضطر أن نفقد نرجسيتنا ونضطر إلى التفاوض معها بعد أن تكون قد عقدت صفقتها فعلاً مع الولاياتالمتحدة، وتحولت صنما مقدساً يستوجب العبادة كإسرائيل الآن، وبعد أن تكون حاجتها إلينا قد انتفت في تفكيك الحصار الأميركي حولها، وعندها فسوف ندفع ثمنا لتصالح البلدين، بعد أن دفعنا ثمناً لعدائهما، أي أننا سوف ندفع الثمن مرتين لسلعة واحدة، من دون أن نقتنيها أصلاً. في هذا السياق أتساءل لماذا لا نشرع في مد الجسور إلى إيران بدلاً من إضاعة الوقت في ردود فعل على سياسات دول صغرى تناور بها دون مسؤولية، أو في كبح جماح حركات مقاومة تخضع لغرائزها دون قيد، أو حتى في معاناة تمرد دولة كبيرة كسورية ربما وجدت نفسها مضطرة إلي التحالف مع إيران إزاء ضعف خياراتها؟ ولعلى أجيب مؤكداً أن في مثل هذا الحوار المباشر توفيراً للوقت والجهد، وتعظيماً للعائد السياسي. ولأن السعودية منفتحة فعلياً على حوار مع إيران يحتاج فقط إلى الدعم والمساندة، فإن الأمر يكاد يتوقف على إمكانية تجاوز القطيعة المصرية - الإيرانية، والدخول في فلك عملية سياسية نشيطة، ومنتجة إستراتيجياً بين الأطراف الأربعة. نعم هناك تباين في مراكز إنتاج الرؤية الإيرانية للعالم بين المحافظين والإصلاحيين ينعكس على رؤيتها لمصر على نحو يصور للبعض أن الحوار مع إيران إما غير مجد أو ممكن من الأساس. غير أن النظرة المدققة تكشف عن خطأ هذا المسلك، فالرغبة الإيرانية في الحوار قائمة وعميقة وتستحق، على الأقل، التجربة. ولعلى أتصور أن دعمها لحركات المقاومة العربية ليس إلا نهجاً مشاكساً في طلب هذا الحوار، وأنها إذا ما وجدت الباب الأمامي مفتوحاً إليه فسوف تستغني عن الباب الخلفي. وربما تعين على مصر أو آن لها أن تتخلص من أثر الدعاية الغربية حول إيران ورغبتها أو قدرتها على تغيير خرائط المنطقة فهذا الحديث لا يعدو ما كان يقال عن مصر الناصرية نفسها والتي لم يكن يعنيها حقيقة سوى كرامة أمتها، وعليها كذلك أن تتجاوز الأوهام التي قد تنثرها إيران حول نفسها، وأن تدرك أنها تحوز من القوة الكامنة بها أو المتولدة عن انتمائها العربي ما يضارع إيران ويفوقها كثيراً شرط رغبتها في تحريك واستنفاذ طاقاتها، والأمة من خلفها. والأهم من ذلك، أن تدرك المحفز الجوهري لحركة إيران الإسلامية، والذى ربما لا يبعد كثيراً عن الرغبة العميقة في تحقيق نوع من الاستقلال الإستراتيجي للمنطقة يعكس خصوصيتها الحضارية، بعيداً عن الهيمنة الأميركية. ونظن أن تلك الرغبة مشروعة، بل مشتركة أو يجب أن تكون مشتركة مع مصر. هذا الإدراك المصري الجديد، مع التمرد العقلاني العربي على الرؤية الأميركية للعالم، ربما يمكنان مصر والعرب من تدشين مسار توحيدي جديد للمنطقة حضارياً، يتجاوز النزوع التفكيكي طائفياً، وحال الركود السياسي قومياً. * كاتب مصري