ظنَّ المصور الصحافي أنه وصل متأخراً عن الحدث الجلل! وصل والعرق يتصبب منه وكاميراته توشك على التطاير بفعل اهتزازات جسده والهرولة تحت شمس آب (أغسطس) الحارقة. أخذ يتلفت حول نفسه. ركض يميناً، لم يجد سوى حفنة من الضباط يحتسون الشاي أمام بوابة القصر. ثم يساراً، فأوقفته جحافل جنود الأمن المركزي، بعضهم وقف متكئاً على الأسياج الحديد وآخرون اتخذوا من باطن سيارة الشرطة سقفاً يستظل به في غفوة قصيرة، والبعض الآخر أسند ظهره على الرصيف منهمكاً في لعب «السيجة» مع الزملاء حول قصر «الاتحادية»! سأل المصور جندياً «أين ذهبوا؟ أين ذهب المتظاهرون؟» وجاءه رد ذي العينين الناعستين «شوفهم هناك على الناصية، كانوا هنا منذ قليل، أكيد لم يبتعدوا!» نصحه زميله «الدنيا حر ربما ذهبوا ليغسلوا وجوههم ويشربوا وقد يعودوا وقت المغرب». تبرع ثالث بالتأكيد على أن مجموعة منهم توجهت الى «الشبراوي» بحثاً عن الفول والفلافل، ومجموعة أخرى فضلت الجلوس عند «كشري هند»! جنّ جنون المصور. فهو يعرف أن المكان حول القصر لا يتسع لمليونية، وأنه عانى الأمرين في اليوم الأول من دعوة إسقاط الإخوان (24 آب/ أغسطس) حتى يلتقط صورة للمتظاهرين ترقى الى مستوى الألفية وربما المئوية. فماذا يفعل اليوم وهو غير قادر حتى الحصول على لقطة «عشرية»؟ توجه مسرعاً إلى المحلات التجارية المطلة على القصر والتي أخرج أصحابها والعاملون فيها مقاعدهم البلاستيكية وجلسوا يتابعون المشهد في الهواء وعليه مباشرة. وجه سؤاله الاستفهامي إلى أحدهم، فأجابه استنكاراً «متظاهرون؟ لا والله لم أر أياً منهم. طيب ماذا يرتدون؟ ربما لو مروا من هنا أخبرك». وأضاف جاره ساخراً «ركبوا تاكسي وانصرفوا!» وزاد ثالث: «لا ذهبوا إلى دورة المياه!» إلا أن المياه التي تساقطت على رأس المصور كان مصدرها «الغسيل» المبلل الذي أمعنت سيدة مسنة في نشره خارج شرفة أعلى المحلات التجارية، ولم تشفع نظرة العتاب التي رمقها بها المصور، بل فتحت عليه وابلاً من السباب مطالبة إياه وكل من على شاكلته من إعلام ومتظاهرين وأمن و «إخوان» بنقل نشاطهم إلى ميدان التحرير أو أي ميدان آخر بعيداً منها. لكن فُرجت عندما لاحت في الأفق مجموعة من المتظاهرين الآتين من «الكوربة» مدججين بلافتات ورقية صغيرة وأعلام بلاستيكية منمنمة وزجاجات مياه فارغة. هذا الظهور المنتظر أثلج صدور فرق القنوات الفضائية المتناثرة ومجموعات الصحافيين الذين كاد الانتظار أن ينال من مستقبلهم المهني بهجر المهنة من فرط الملل وحرارة الشمس. وعلى رغم أن الصورة الملتقطة لليوم الثاني والأخير من «ثورة 24 و25 آب/ غسطس» تتحدث عن نفسها وتؤرخ تأريخاً مؤكداً لفشلها، إلا أن الكواليس المحيطة ب «قصر الاتحادية» أمدت الجميع بهوامش مصرية شعبية. العاملون في محل حلويات شهير يطل على القصر أجمعوا على أنهم غير مؤيدين لحكم «الإخوان» لكنهم أيضاً رأوا في الدعوة لإسقاطهم مهزلة وعبثاً أضرتا بمعارضي الإخوان ووضعتهم جميعاً في سلة واحدة مع الفلول وأنصار الفريق أحمد شفيق وجماعة «آسفين يا ريس» وغيرهم! أما صاحب المكتبة في الجهة المقابلة فيقول إن المهزلة الحادثة أمامه رفعت من أسهم «الإخوان المسلمين» وأمعنت في تعميق شعبيتهم وشرعيتهم بفعل حماقة الدعوة الهزلية لإسقاطهم. ورغم عودة المصور إلى مقر مجلته الأسبوعية بصور هزيلة تعكس الأعداد الهزيلة وتعبر عن الفعاليات الهزلية التي قامت بها، إلا أنه سيتم إفراد مساحات كبيرة لها مع تحقيق صحافي قد ينشر تحت عنوان «ثورة كوميدي» يرصد كل النكات والقفشات التي تفجرت من وحي الثورة، ثورة 24 و25 آب. «لماذا سميت ثورة 24 أغسطس؟ لأنها قامت في أغسطس على يد 24 شخصاً أصبحوا 25 في اليوم التالي». وعن سبب تعثر وصول المتظاهرين ورد خبر عاجل يقول «ثوار أغسطس عالقون في الميكروباص، إذ أن السائق يرفض التحرك إلا بعد اكتمال العدد». وإذا كان عدم اكتمال العدد هو سبب اختفاء المتظاهرين، فإن هناك من يؤكد وجود مؤامرة. ويُشاع أن الإعلامي توفيق عكاشة يتهم جهات استخباراتية بإطلاق غازات مسيلة للمتظاهرين وقادرة على إخفائهم. فريق آخر رأى أن الهدف من «ثورة أغسطس» كان «إسقاط الإخوان المسلمين من الضحك». ويضرب آخرون كفاً على كف من إهدار الفرص الذهبية، فالمرة الوحيدة التي نزلت فيها الشرطة لحماية المتظاهرين لم يأت المتظاهرون. ربما يكون الشعار الأمثل الآن هو «خيرها في غيرها»!