لو عاش ريتشارد آتنبورو عاماً آخر وخمسة أيام لأكمل عامه التسعين، ومع هذا حتى وفاته أمس ما كان في إمكان أحد ان يخمّن أنه حقاً بلغ هذه السن. فهو حتى أيامه الأخيرة كان من الحيوية والرغبة في العمل إلى درجة كان يعتبر معها من «شيوخ الشباب»... الشباب الذي عرف كيف يضخّه بقوة، على الأقل في الأكاديمية الملكية للفن الدرامي التي كان يرأسها في بلده بريطانيا. وفي بريطانيا كان آتنبورو يعتبر مَعْلماً وصرحاً فنياً كبيراً منذ ما لا يقل عن سبعين سنة، إذ بدأ التمثيل في أدوار صغيرة سرعان ما راحت تكبر، منذ العام 1942 آتياًَ على طريقة كبار المبدعين الإنكليز من المسرح الشكسبيري. اليوم، يصعب إحصاء الأفلام التي مثّل فيها آتنبورو، ومنها أعمال تعتبر من الروائع في تاريخ السينما البريطانية مثل «صخرة برايتون» و«الهروب الكبير» و»الرجل في الداخل» و»مسألة حياة أو موت» و»السر الثالث»... فهو في معظم الأحوال، لم يكن نجماً وغالباً ما كان يكتفي بأدوار ثانوية نمطية، وأحياناً بدور الراوي. غير ان مجد هذا الفنان الكبير كان ينتظره في مكان آخر... تحديداً في إخراجه، المتأخر زمنياً على أية حال، لعدد لا بأس به من روائع السينما العالمية. ففي الإخراج أكثر مما في التمثيل، عرف آتنبورو كيف يجعل لنفسه مكانة أساسية في سينما العالم. وذلك تحديداً على غرار أولئك الممثلين الكبار الذين عرفوا في لحظات مناسبة كيف ينتقلون من أمام الكاميرا الى ورائها، من أمثال تشارلي شابلن وأورسون ويلز ولورانس أوليفييه... ثم وودي آلن وكلينت إيستوود في زمان أقرب إلينا. طبعاً، من الصعب وسم السينما التي حققها آتنبورو بأنها تنتمي الى سينما المؤلف أو تنضح بحميمية إبداعية ذاتية. لم يكن هذا نمطه في عمله، بل إنه منذ فيلمه الأول كمخرج «آه يا لها من حرب محبوبة!» (1969) آثر الإنتاجات الضخمة المتنوعة، لا سيما الأعمال التاريخية التي تتناول سير أفرادٍ مميزين كما في أفلامه الثلاثة الكبيرة الأساسية كمخرج «ونستون شاباً» عن جزء من سيرة ونستون تشرشل (1972) و»غاندي» تحفته الكبرى عن حياة ونضال زعيم الهند الكبير (1982)، و»تشابلن» (1992) العمل الكبير والاستثنائي- رغم أنف النقاد الذين ناوؤوه - عن حياة الفنان الذي أبدع للقرن العشرين، فكان فيلم آتنبورو خير تحية له. كان لآتنبورو أن يحقق هذه الأفلام الثلاثة ليجعل لنفسه مكانة كبرى في تاريخ الفن السابع... لكنه لم يكتفِ بها رغم كونها انتاجات شديدة الضخامة، تطلب كل منها جهود سنوات طويلة. فحقق كذلك واحداً من افضل الأفلام التي وقفت ضد التمييز العنصري في جنوب إفريقيا، «صرخة الحرية» (1987) إضافة الى نصف دزينة من أفلام أخرى راح يحققها بين الحين والآخر، إنما من دون ان تمكّنه من العثور على مستوى انتاجاته الضخمة السابقة... ولا طبعاً على ضخامة «جسر بعيد جدا» الذي صوّره من حول إحدى عمليات الحرب العالمية الثانية، وكان ثالث أفلامه الروائية الطويلة. فالحال ان آتنبورو الذي عاش حياةً ومساراًً يتسمان بمقدار كبير من الضخامة والاستعراضية، ما كان يتفوق على نفسه إلا حين يدنو من السينما التاريخية. وهي السينما التي أعطته جوائز كبرى زيّنت مساره المهني، لا سيما منها الأوسكار- عن «غاندي»- وأربع جوائز بافتا- الأوسكار الإنكليزي- وأربعاً أخرى في «الغولدن غلوب»... أما هو فكان يحلو له ان يقول ان جائزته الكبرى في الحياة كانت فنه وأقاربه الذين انخرطوا مثله في هذا الفن: شقيقاه دافيد وجون آتنبورو وصهره- أخ زوجته- جيرالد سيم وكنّته النجمة الشهيرة جين سيمور.