لم يكن المخرج الإيطالي الراحل سرجيو ليوني، فاشياً... بل كان ضمن منطق فكره السياسي، أقرب الى اليسار الليبرالي، ومع هذا كان هو من وضع «حجر الأساس» لواحدة من أكثر الشخصيات البطولية فاشيةً في تاريخ الفن السابع. ونعني بها شخصية راعي البقر «الذي لا اسم له»، والتي أطلقت شهرة الأميركي كلينت ايستوود في العالم كله، بصفته بطلاً – مضاداً، في ثلاثية أفلام «الدولارات» – «من أجل حفنة من الدولارات»... الخ -. منذ شاهد العالم فيلم رعاة البقر الإيطالي هذا، صار كلينت ايستوود نجماً مفضلاً لدى الملايين، بنزعته العنيفة الى الانتقام، ومعاركه التي ينتصر فيها دائماً وحواراته النادرة ونظرة عينيه النارية. والحال ان ايستوود حين عاد، إثر ذلك النجاح العالمي الكبير، الى وطنه الأصلي، الولاياتالمتحدة، مختتماً مساهمته الرئيسة في نوع من السينما أطلق عليه اسم «سباغيتي وسترن»، نقل معه ملامح تلك الشخصية نفسها، انما تحت قناع جديد، هو قناع المفتش هاري الملقب ب «هاري القذر» المنتقم، أيضاً، من الأشرار بعنف، وصاحب النظرات النارية والمتخطي القانون وأي أعراف انسانية. وهكذا بعد مجده الإيطالي – العالمي، كوّن ايستوود لنفسه مجداً أميركياً كبيراً. لكنه كان مجداً مضاداً، إذ صار هذا الممثل العملاق يعرف بيمينية جهزته تماماً لخلافة جون واين، كما وضعته لاحقاً في صف واحد مع أصحاب العضلات من نجوم العنف اليمينيين، من أمثال ستالوني وشوارزينغر، فصار بدوره هدفاً سهلاً للنقد اليساري والليبرالي. غير أن هذا التاريخ كله يبدو اليوم بعيداً. وعلى الأقل منذ حدثت «معجزة صغيرة» في حياة ايستوود ومساره المهني حولته من نجم شعبي، الى مخرج طليعي، يعتبر اليوم من كبار هوليوود، تشهد على هذا سلسلة أفلام أخذت مكانها تدريجاً في تاريخ السينما وصار بعضها من الكلاسيكيات، كما تشهد عليه جائزتا أوسكار أفضل اخراج... بل أيضاً احساس ايستوود ونقاد وسينمائيون كثر معه، بأنه في الحقيقة يستحق أكثر من ذلك. وإيستوود على رغم صمته الأسطوري لا يتوقف عن التعبير عن ذلك، وكان آخر تجليات هذا التعبير، غضبه في الدورة الأخيرة لمهرجان «كان» حين لم يفز فيلمه «الابدال» بالسعفة الذهبية التي كانت متوقعة له، فأعطي بدلاً منها جائزة تكريمية تباطأ شهوراً قبل قبولها، وكذلك غضبه قبل أسابيع قليلة حين لم يفز فيلمه «غران تورينو» بأي أوسكار. دهشة غير أن هذا الغضب سيتحول بالتأكيد، الى دهشة حين نتذكر ان ايستوود الذي مثّل في ما يربو على سبعين فيلماً حتى الآن، لم يفز بأي أوسكار لأفضل ممثل، هو الذي يعرفه الملايين نجماً تمثيلياً كبيراً، أكثر مما يعرفونه مخرجاً. بالنسبة الى هؤلاء، ايستوود، هو منذ ما قبل بداية سبعينات القرن العشرين، اسم حاضر بقوة بين كبار نجوم هوليوود، بل هو حتى اليوم الأكثر استمرارية في أدوار البطولة بين أقرانه. ومع هذا، ها هو يُعامَل نقدياً ومهرجانياً كمخرج كبير يكاد يصبح اسطورياً، أسطورية جون فورد وغريفيث وسيسيل بي. ديميلى، أو حتى جون هستون... في انتظار مزيد من الأعمال قد تضعه يوماً في صفوف أورسون ويلز، هتشكوك وكوبولا. والحقيقة أن هذا لا يبدو بعيداً جداً من المنطق، لمن يتأمل ما حققه ايستوود خلال العقد ونصف العقد الأخيرين، من أفلام يختلط فيها الذاتي بالعام، وحسن التمثيل بقوة الإخراج، ولا سيما – بالنسبة الى هذا العنصر الأخير – في عدد لا بأس به من أفلام أخرجها من دون أن يمثّل فيها (مثل «نهر المستيك» و «بيارق آبائنا» و «رسائل من أيوجيما»... وبخاصة «الإبدال»). أما حين يجمع ايستوود التمثيل الى الاخراج (كما، مثلاً، في «الفارس الشاحب» و «الطريق الى ماديسون» و «طفلة المليون دولار» والأخير «غران تورينو» الذي عاد فيه الى التمثيل بعد سنوات)، فإنه بالتأكيد يقدم أعمالاً استثنائية وأدواراً أكثر استثنائية. ويعرف متابعو هذه الأفلام، أن ايستوود انما اختار أن يلعب فيها أدواراً تكاد تصور شخصيته الحقيقية وأسئلته وقلقه حول مسائل وجودية باتت تشغل باله في السنوات الأخيرة، مثل الموت والشيخوخة والصداقة ثم، أخيراً، وعلى الأقل في ثلاثة أو أربعة أفلام أخيرة: المسألة العنصرية وقبول الآخر وقضية الاختلاف، مركزاً وإن في أشكال مواربة، أحياناً، على توجيه نقد حاد، الى مواقف أميركية عنصرية ترفض الآخر وتخشى الاختلاف. وهنا، في هذه النقطة بالتحديد يكمن، في الحقيقة، ذلك الانقلاب الكبير، الذي نقل أحد كبار مؤيدي نيكسون وأصدقاء ريغان ومختار بلدة كرمل الكاليفورنية لفترة من الزمن شهدت عنف الشرطة في البلدة، الى صف وضعه ذات يوم على مجابهة مع بوش، أباً وابناً، وجعله جزءاً من حلقة فنانين يجاهرون بمواقفهم اليسارية التقدمية المشاكسة (أعطى، مثلاً، شون بن الدور الذي وفر له أول أوسكار مهم عن فيلم «نهر المستيك» ويعتبر صديقاً لتيم روبنز وسوزان ساراندون)، كما انه جعله يختار من المواضيع ما لا يتوافق مع الطروحات اليمينية الفاشية (من قبوله بفكرة الموت الرحيم في «طفلة المليون دولار»، الى رفضه شيطنة العدو الياباني في «رسائل من ايوجيما» وعدم مبالاته بفكرة الوفاء الزوجي لدى الطبقة الوسطى في «الطريق الى ماديسون»، وانتقاده النزعة القومية القائمة على التكاذب المشترك، في «بيارق آبائنا»... وصولاً اليوم الى مجابهة – داخلية ومع الذات – للعنصرية الأميركية البيضاء، في «غران تورينو»). لقد كُتب الكثير وقيل الكثير أيضاً عن هذا التحول الكبير في حياة كلينت ايستوود وأفكاره، وثمة في الأوساط السينمائية الأميركية نقاشات حول هذا الأمر، بل ثمة من لا يصدق ان ايستوود تغير (شهيرة حكاية الاتهام الذي وجهه سبايك لي قبل عامين لإيستوود بأنه تعمد ألا يضع جندياً أسود بين الجنود الأميركيين الذين رفعوا العلم الأميركي فوق جزيرة ايوجيما في «بيارق آبائنا»، فكان رد ايستوود عنيفاً وبسيطاً: «لم يكن بينهم في الحقيقة جندي أسود». واليوم، مع «غران تورينو»، هل يجرؤ لي على توجيه مثل هذا الاتهام التبسيطي لإيستوود؟). مسار وطبعاً، يمكننا ان نقول مرة أخرى، في ختام هذا الكلام، إن كل هذا التبدل، لم يكن متوقعاً في حياة ومسار عمل هذا الفنان الذي ولد العام 1930، في سان فرانسيسكو، لكنه عانى كثيراً في بداياته، عام 1955، حين سعى الى مكان ما، بين ممثلي هوليوود فجوبه بالرفض، وبأدوار هي أشبه بأدوار الكومبارس، في التلفزة بخاصة، حتى أتيحت له الفرصة عند بداية الستينات من القرن الماضي، حين لفتت قامته ونظرة عينيه الصافية الزرقة، أكثر من فنه وأدائه بكثير، قوماً كانوا يبحثون لمخرج ايطالي شاب وطموح، عن ممثل أميركي لأفلام رعاة البقر الإيطالية التي صارت على الموضة في ذلك الحين. وهؤلاء لم يكونوا، على أي حال يعرفون أن ثمة في داخل ذلك الشاب الصموت، طموحات كبيرة. أما هو نفسه، فإنه على الأرجح، لم يكن يعرف أن تلك الطموحات ستقوده الى الاخراج، حتى وإن كان سيفاجئنا ان نعرف هنا انه حقق فيلمه الأول – والذي أضحى كلاسيكياً على أي حال – عام 1971، أي فور عودته من ايطاليا مكللاً بنجاح شعبي. كان الفيلم «العب ميستي من أجلي»، الذي مثله وأخرجه. وبعد ذلك واصل ايستوود طريقه، اخراجاً وتمثيلاً... الطريق التي امتلأت بعلامات في المجالين، من الصعب هنا وضع لائحة بها، إذ على مدى أكثر من نصف قرن حتى الآن مثّل كلينت ايستوود عشرات الأفلام، وأخرج ما يعادل فيلماً كل عامين (الآن حقق 4 أفلام في عامين، على رغم انه يقترب حثيثاً من الثمانين من عمره!)، وخاض في العمل السياسي، وشارك في السجالات الهوليوودية الكبرى... لكنه في خضم ذلك كله، عرف كيف يحيط حياته الخاصة بكل أنواع الاحتشام، فلم نعرف له مغامرات نسائية، ولا مشاكل عائلية ولا حتى مواقف يتصدى فيها للآخرين، وإن كان بدا دائماً – مثل أبطاله – عنيفاً حين يُستفز، وعنيداً حين يرى أنه على حق... ومن يتابع مسيرة كلينت ايستوود وحياته، خلال السنوات الأخيرة، قد لا يفوته أن يلاحظ أنه على حق في معظم الأحيان، بل حتى حين ينتقد نفسه ومواقفه ويعيد النظر في تاريخه كما يفعل في «غران تورينو».