الشيخوخة كما يقول الأديب الفرنسي «أندريه موروا» هي الشعور بأن الأوان قد فات، أو أن المسرح أصبح لآخرين غيرنا، وهو شعور أليم وفيه خوف ممزوج بقلق وربما كآبة، وكأنه في جوهره تعبير عن إحساس المرء بأنه لم يعد قادراً على أن يحيا الحياة المنتجة المزدحمة، أو تعبير عن إحساس دفين بالذنب لما ضاع من فرص، ولما تبدد من قوى وطاقات، كان بالإمكان استثمارها أفضل، ولا يملك المرء اليوم رفاهية الوقت لتعويضها، فيتضخم الشعور بالمرارة، لأن جزءاً من تكوين هويتنا استرجاعنا إلى تجاربنا الوجودية السابقة، وكأن من شأن الشعور بالهوية أن يجعلنا نرى أنفسنا عبر الذاكرة، أضف إلى أن اعتراف المرء بالشيخوخة عادة ما يقترن بالنظر المباشر إلى المرآة وبخاصة لدى المرأة، وكأن الإنسان لا يهرم سوى من الخارج، كمثل الكاتب الفرنسي «فرانسوا موريال» الذي أصابته الدهشة عند رؤية صورته للمرة الأولى على شاشة السينما بنبرات صوته التي أذهلته متسائلاً، من يكون هذا الشيخ الطاعن في السن الذي يراه والذي هو في الوقت نفسه! لا يرى الناس أنفسهم كما يراهم الآخرون، ولكن رؤيتنا المعكوسة من خلال نظرة الآخرين لنا هي أيضاً مهمة، فلا أحب على المرأة من سماعها أن شكلها لا يدل على واقع عمرها، وكأن سنوات خصوبتها وأنوثتها لم تغادرها بعد، لذلك هي تتسلل بين عيادات التجميل لتحافظ على شبابها من الهرم، مع أن الفرق شاسع بين شباب الشيوخ وشيوخ الشباب، فما عساها تكون الشيخوخة؟ أهي وهن وضعف بيولوجي عن أداء ما كان ممكناً، قد يكون! ولكن الأنكى من بعض أنشطة توقفت بتقدم العمر، هو أن يفقد المرء المبرر لوجوده، وليست مساحتي هنا للبحث في الأسباب التي أدّت إلى هذا الإحباط (إن زعزعة الإيمان أو الوفاء بالبشر أو غيره)، ولكن محاولة فهم أن الشيخوخة هي - بمعنى ما - عادة سيئة، يمارسها البعض ولا يدري أنه يمارسها، فالإنسان الذي لم يتوقف عن العمل والإنتاج لا تراه يكتسب مثل هذه العادة، لأنه ببساطة لا يملك متسعاً من الوقت لذلك، وكل كبير في السن يقلع عن العمل (أياً كان حجمه)، ما يلبث أن تخذله قواه الذهنية والوجدانية، فالبطالة تقلل من مضمون الزمن الذي يحياه المرء، بل إن الفراغ أشد خطورة على الشيوخ منه على الشباب وباعتراف الطبيب وصاحب جائزة نوبل «ألكسي كاريل». ولأن هناك مجتمعات شابة تمجِّد قيم السرعة والحيوية، فقد يجد المتقدم بالعمر من صار يحكمه التأني وبطء الحركة، أنه لم يعد له مكانة في صميم حضارة شارك يوماً في خلقها، أمّا في المجتمعات التي تعترف بوزن الخبرة وثقل ما تختزنه من حكمة كمثل الشرق الأقصى، فإن المتقدمين بالعمر هناك قلّما يفقدوا مكانتهم أو مبررات وجودهم، وسأرد فقرة للرسّام الياباني هوكوساي، وإن طالت بعض الشيء، ولكن أملي أن تُقرأ بعبرة وابتسامة، يقول الرسام: «منذ صغري كان ولعي شديداً برسم أشكال الأشياء، وحين بلغت الخمسين من عمري كنت أصدرت عدداً من الرسوم، ولكن ما أنتجته قبل سن السبعين ليس جديراً بالاعتبار، إنما ببلوغي الثالثة والسبعين كنت قد تعلمت الشيء القليل من التكوين الحقيقي للطبيعة والحيوانات والنباتات، وتبعاً لذلك فإن من المؤكّد أنني بوصولي إلى سن الثمانين سأكون قد حققت المزيد من التقدم، أمّا ببلوغي سن التسعين فسيكون بوسعي أن أنفذ إلى سر الأشياء، فإذا قُدِّر لي أن أصل إلى سن المئة، فسأكون بلا شك قد بلغت مرحلة من الإعجاز، أمّا في سن العاشرة بعد المئة فإن كل ما سيخطه قلمي ولو كان مجرد نقطة صغيرة أو خط قصير لن يكون إلا مخلوقاً حقيقياً عامراً بالحياة»، وبالمناسبة فإن جوته - شاعر الألمان الكبير- قدّم لنا في شيخوخته النهاية الرائعة للجزء الثاني من مسرحية «فاوست»، وليت المجال يتسع لاستعراض الأسماء العربية والأجنبية، بتجارب لإبداعات لم تأتِ إلا متأخراً! فماذا عن الخوف من الموت؟ فإلى مقالة أخرى! [email protected]