كثيرا ما أتخيل، وقد أكون مخطئة، أن أكبر علامة على التقدم في السن هي فقد الروح المرحة ومعها الحماسة والتوقد للتفاعل مع الحياة وما تكتظ به من أحداث. فالإنسان عبر امتطائه الوئيد سنوات العمر تأخذ درجة حرارة انفعالاته وعواطفه بالهبوط التدريجي إلى أن تصل إلى درجة التجمد حيث يتحول عندها إلى كتلة بشرية باردة خالية من الدفء والتفاعل العاطفي. هذه حقائق الحياة وعلى كل الناس كبارا وصغارا إدراكها والتهيؤ لبلوغها أعجبهم أم لم يعجبهم. ومع ذلك فإن مقال اليوم ليس موجها للجميع فإن كنت لا تزال في ريعان الستين وما قبلها فابعد المقال عن بصرك، الخطاب محصور بيني وبين أولئك الذين بدأوا الثلث الأخير من العمر. أغلب الذين بلغوا سن الشيخوخة يعانون من الاكتئاب والضيق، ما لم تكن لديهم من مسؤوليات العمل وثقله ما يبتلع وقتهم كله فيصرفهم مرغمين بعيدا عن أسر شباك الاكتئاب. واكتئاب الشيخوخة حقيقة متعارف عليها تظهر كمقابل لمرح الشباب، تماما كما أن الحكمة والوقار رمز الشيخوخة في مقابل الطيش والاندفاع في سن الشباب. والشيوخ يعرفون هذا وكثير منهم يتذمرون من اكتئابهم ويعبرون عن ضيقهم به وحزنهم أنهم ما عادوا يجدون في الحياة ما يمتع ويبهج، فما يمتع لا يليق بهم، وما يليق بهم لا بهجة فيه، فأي جدوى في حياة بلا متع!! الأطباء يقولون إن اكتئاب الشيخوخة تتحكم فيه الهرمونات نقصا وزيادة، أي أن المكتئبين من الشيوخ ما عليهم سوى مراجعة الطبيب ليعدل مستويات الهرمونات المختلة في أجسامهم، لكن الهرمونات مهما اعتدلت لن تستطيع أن تقاوم اكتئاب الشيخوخة. إن قراءة واحدة لقصيدة ابن الرومي التي يتحدث فيها باكتئاب ظاهر عن شيخوخته، تؤكد لنا أن المسألة ليست مسألة هرمونات وإنما وراء الأكمة ما وراءها من المفقودات التي تصيب القلب بالحسرة فتورثه الاكتئاب. فمن خلال تجربة ابن الرومي يتضح أن الشيوخ يكتئبون لما اختلسته منهم سنون عمرهم الماضية، هم يكتئبون لذهاب الجمال وفقد النضارة: سلبت سواد العارضين وقبله بياضهما المحمود إذ أنا أمرد وبدلت من ذاك البياض وحسنه بياضا ذميما لا يزال يسود وكنت جلاء للعيون من القذى، فقد جعلت تقذى بشيبي وترمد ويكتئبون لفقد إعجاب الحسان بهم والتعرض المؤلم لنفورهن وصدهن وعدم رغبتهن في الإنصات إلى حديثهم: ولذت أحاديثي الرجال وأعرضت،،، سليمى وريا عن حديثي ومهدد وبدل إعجاب الغواني تعجبا، فهن روان يعتبرن وصدد ويكتئبون للضعف والوهن، بطء الاستجابات وضعف الذاكرة وتضاؤل التركيز وكلال البصر وتقارب الخطو: ودب كلال في عظامي أدبني، جنيب العصا، أنأد أو أتأيد وبورك طرفي فالشخاص حياله، قرائن من أدنى مدى وهي فرد وهذا الضعف والوهن وتسرب القوى بعيدا ما هي إلا إرهاصات محزنة باقتراب النهاية: محار الفتى شيخوخة أو منية، ومرجوع وهاج المصابيح رمدد بعد كل هذا، هل تستطيع الهرمونات أن تعيد شيئا من تلك المفقودات لتعود الابتسامة والمرح والتفاؤل فتغسل ملامح الشيخ؟!. فاكس 4555382-1