«أنا من قرية اشتهرت بشهداء المراكب الذين ماتوا غرقاً في عرض البحر أثناء محاولة الهجرة غير الشرعية إلى إيطاليا هرباً من الفقر والحاجة! هؤلاء الشهداء، ومنهم أبناء أعمامي وأصدقائي وجيراني، لم يُحرموا فقط حقوقهم البديهية في حياة كريمة وفرصة عمل تحميهم من مد أيديهم طلباً لرغيف خبز، بل سُلبوا حق حمل لقب «شهيد»، بعدما أفتى المفتون بأنهم ليسوا شهداء، بل موتى! هذه القرية الغنية بشبابها الفقراء الباحثين عن فرص كسب الرزق ولو كان قليلاً، تورّد أعداداً كبيرة من الشباب العامل في مجال الفندقة والخدمات للمدن السياحية. أولئك يتكبدون عناء النزوح إلى أماكن العمل والإقامة في ظروف كثيراً ما تكون غير آدمية، للعمل في فندق أو قرية سياحية، واليوم يجدون أنفسهم مطاردين، لكن هذه المرة لا يهددهم خفر السواحل أو قوات الأمن الإيطالية أو اليونانية أو القبرصية، بل مشايخ التكفير ممن يحرمون العمل في السياحة». كلمات انطلقت كالطلقات السريعة الغاضبة من نبيل محمود (24 عاماً) الشاب القادم من محافظة الفيوم للعمل في أحد فنادق مدينة الغردقة السياحية على ساحل البحر الأحمر. نبيل، الذي يقيم في مساكن العاملين في عنبر يحوي عشرة من زملائه، ويزور أسرته مرة في العام من أجل ضغط النفقات وتوفير أكبر قدر ممكن من الراتب لتجهيز شقيقته المخطوبة منذ ثلاث سنوات وللإنفاق على والدته وبقية أشقائه، يتحدث عمن يحرمون السياحة أو يخططون لتقليصها وتفصيلها على هواهم بحنق شديد، ويقول بغضب شديد: «قبل أن يحرم الجهلاء السياحة والعمل بها أطالبهم بمحو أميتهم وتنقية عقولهم التي لا تفكر إلا في الشهوات والمنكر، فإن فعلوا ذلك ووجدوا أن السياحة مازالت حراماً، فلا بأس، لكن عليهم أولاً توفير فرص عمل كريمة لكل أولئك الشباب العاملين في الغردقة وشرم الشيخ ودهب وغيرها». المشهد الاقتصادي في الغردقة شبابي بامتياز، النسبة الغالبة من العاملين في قرى مدينة الغردقة السياحية وفنادقها هم من الشباب، ممن لا تزيد أعمارهم على 35 عاماً. يأتون من كل صوب وحدب في مصر، لكن النسبة الأكبر تأتي من محافظات صعيد مصر، لا سيما قنا والمنيا والأقصر. بعضهم لم يستكمل تعليمه المدرسي، لكنه يتحدث الروسية والإيطالية والألمانية. صالح سيد (20 عاماً) عامل نظافة في قرية سياحية في الغردقة. رغم أنه ترك المدرسة وهو في المرحلة الإعدادية، يتحدث الروسية بطلاقة، بالإضافة إلى الألمانية التي يستطيع التفاهم بها مع نزلاء القرية من الألمان. يقول إن مصدر رزق أسرته الوحيد هو هذا العمل، ولذلك فهو مستعد للدفاع عنه بكل ما أوتي من قوة. يقول: «أعرف ربي وديني وأحفظ القرآن وأصلي وأصوم وأراعي ذلك في كل تصرفاتي. وهذا هو المهم». لكن المهم أيضاً أن يلم القائمون على شؤون الحكم في مصر بأحوال الشباب العاملين في السياحة، مباشرة أو غير مباشرة، وعددهم نحو أربعة ملايين مصري ، يدرّون لمصر نحو 13 بليون دولار سنوياً. وكذلك بأحوال نحو 3.3 مليون شاب إما متلطع على المقاهي أو واقف على النواصي أو منخرط في أعمال بلطجة أو نشاطات هامشية بعضها يضر بالاقتصاد أكثر مما يفيده. ولأن الفائدة لا تقف عند حد معين، ولأن الابتكار والتجديد أيضاً لا يعترفان بالحدود القصوى، ولأن القدرة على التفكير خارج الإطار الكلاسيكي والمعتاد هو سمة الشباب، فإن مدينة كالغردقة عامرة بتجارب شبابية خارجة جميعها من «الصندوق» التقليدي. ولا تخلو قرية سياحية أو فندق من فريق شبابي للترفيه عن الرواد، وهي فرق تعتمد على ابتكار الألعاب وسبل الترفيه. إحدى هذه الفرق تتكون من خمسة شباب مصريين وفتاة إيطالية وأخرى روسية. نقطة البداية كانت مع رئيس الفريق عمر نجم (28 عاماً) الذي أتى إلى الغردقة للمرة الأولى قبل ما يزيد على 11 عاماً في رحلة مدرسية، ومن وقتها قرر أن تكون الغردقة وجهته ومحل إقامته ومقر عمله. يقول: «أنهيت دراستي الثانوية، وحزمت حقائبي وتوجهت إلى هنا. عملت في البداية في مجال خدمة الغرف بعد دورة تدريبية في القرية السياحية نفسها. بعدها بدأت أتابع فريق الترفيه الإيطالي في القرية، وتعلمت منهم الكثير وأضفته إلى موهبتي في التقديم والغناء. وبعد عامين استدعيت صديقين لي من القاهرة، أحدهما بارع في رقص ال «هيب هوب» والثاني يهوى فنون السيرك ويعرف الكثير منها بحكم عمل والده، وكوَّنّا فريقَ ترفيه وحصلنا على فرصة عمل في فندق صغير، وخلال أشهر عدة كبر الفريق وكبرنا معه، وحصلنا على فرصة في قرية سياحية شهيرة. واليوم أصبحنا فريقاً معروفاً على مستوى القرى السياحية، ولا أبالغ لو قلت إن العديد من الأفواج السياحية الروسية والإيطالية تأتي كل عام من أجلنا بالأخص». الفرقة التي كونها نجم ليست استثناء، بل هي قاعدة في مدينة الغردقة. جميع أعضاء تلك الفرقة من الشباب الذين تمردوا على نظرية النشوء والارتقاء السائدة في مصر، من تعليم ثانوي، تعقبه شهادة جامعية هيكلية، تكلل برحلة بحث عن فرصة عمل توائم البكالوريوس، عادة ما تنتهي بالجلوس في مقهى أو الانغماس في محاولات هجرة غير شرعية أو اكتئاب ناجم عن إحباط. بينما يتحدث نجم، يغطي على صوته بين الحين والآخر أزيز طائرات «شارتر» آتية من جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق وإيطاليا وألمانيا وهولندا بالإضافة إلى القاهرة، منذرة بقرب هبوطها في المطار القريب من القرية السياحية. وفي كل مرة ينظر إلى السماء ويلوح بيده إلى الطائرة، يقول: «كل طائرة من تلك الطائرات هي خير وكل دعوة إلى محاربة السياحة أو تحريم العمل بها هي شر واضح. ليت العاملين في قطاع التحريم والتكفير يبحثون عن عمل آخر يفيدهم ويفيدنا ويفيد بلدنا، لأن هذه الفائدة ستنفعهم في الآخرة حين يُسألون عما فعلوا في حياتهم. وليتركوا قطاع السياحة والعاملين فيها في حالهم». حال هذا القطاع يتحدث عن نفسه! فهو يمثل 5.6 في المئة من الناتج القومي المباشر، و11.6 في المئة من الناتج القومي غير المباشر، ويدر عشرة في المئة من قيمة الضرائب بالإضافة إلى ضريبة المبيعات. وهو يمثل المصدر الأكبر للعملات الأجنبية (نحو 13 بليون دولار سنوياً).