أحياناً ما تولِّد غزارة المعرفة كسلاً لدى صاحبها، فلا يعد يجهد نفسه بمزيد من المعرفة، ويظن أن ما لديه يكفيه، فيزهد في الإضافة، ولكن ما قولك بما لا يملك من المعرفة قوت يوم، ويتذمر ويأخذه الغضب ويتهمك بإفساده؟ فهل لكونها تهمة سهلة القبول لدى الناس؟ إن خير ما يصنعه من في مثله أن يكون منصتاً جيداً لما يقرأ، فالإنصات درجة أعلى من الاستماع، وهناك من الأشياء ما تُثير فينا الدهشة، إذا نحن أصغينا واكتشفناها، وكنا عنها غافلين، فما أقل ما يعلم العامة عن الحق والصواب، إذ لا بُدّ للمرء أن يكون قد خطا في الحكمة (ولا أقول في العلم) خطوات واسعة، حتى يستطيع أن يتلمّس سبيله إلى أي طريق أحق أن يتبع، ولكن المحزن حين يعتقد في نفسه المعيار الذي ينظر من خلاله، فيقيس به الأفعال والأقوال، خصوصاً تلك التي تخص غيره، فماذا إن استيقظ يوماً، وتنبّه إلى أن معياره أضيق من أن يسمى معياراً، وأن الله خلقنا، وارتضى لنا معياراً، من سعته أن يشملنا جميعاً في رحمته، أفيأتي العبد ويصر على معياره الضيق العَسِر؟ لو فرضنا أن سبب الخلاف عدد معين لناتج معين، ألا نلجأ من فورنا إلى الحساب، وننهي ما بيننا من اختلاف بعملية حسابية ليس بعدها شك؟ فأي أنواع الخلاف إذاً لا يكون تسويتها على هذه الشاكلة بل وتثير فينا العداوة والبغضاء؟ هو ما تعلق أمرها بمواضيع العدل والظلم والخير والشر والشرف والضعة، ولِمَ أذهب بعيداً! ففريق يرى الثورة السورية حقاً، وآخر يرى النظام أحق منها، وفريق يجد في تحرير سورية من قبضة حاكمها بطولة، وفريق يجد تحرير سورية من قبضة ثوارها بطولة، هذه بعض من نقاط خلاف بين الناس، ويكون الشجار بأسبابها حين نعجز عن تسوية أوجه الخلاف، وكأن كل امرئ يعتقد ما يراه عدلاً وخيراً، ويمقت نقيض الآخرين! وعلى هذا الأساس تكون أشياء بعينها عادلة وأخرى غير عادلة، وهي التي لا ينفك الناس يجادلون فيها، لا سيما في ساحات القضاء، فيقترفون الجرائم، ثم لا يجدون حرجاً في الدفاع عن أنفسهم، وهم في ذلك لا يقرون أن فاعل الشر يجب ألا يعاقب، ولكنهم يجادلون في من فعل الشر ولِمَ ومتى! والآن هل العادل تقي دائماً، أم التقي دائماً عادل؟ لنقل إن العدالة فكرة أوسع، وما التقوى إلا جزء منها، بمعنى قد توجد عدالة، ولا تكون تقوى، فإذا كانت التقوى جزءاً من العدالة، فأي جزء هو ذاك؟ هل تكون التقوى هو ذلك الجزء من العدالة الذي نتقي به الله، وأما الجزء الآخر من العدالة فنخدم به مصلحتنا ومصالح العباد؟ أعتقد أن الجزء الثاني هو الذي تقع فيه الإشكاليات، ويقع فيه اللبس، فنحن نراه ظلماً وغيرنا يراه عدلاً، بشار يراه عدلاً، والثورة تراه ظلماً، ولكن هناك أمراً لا يحتمل الوجهين، أن تقتل طفلاً بريئاً، روح لم تميّز بعد في أي صف تقف، فتأتي وتزهقها، وهي بعد لم تقرر، ثم تجد من يقدِّس ظلك، فهل يكون الخوف فيكون التقديس؟ فماذا عن بشر يخشون الفقر والمرض ولكنهم لا يقدسون ما يخشون؟ وعليه، حيث يكون التقديس يكون الخوف، أليس كذلك؟ ولأن الخوف فكرة أوسع والتقديس جزء منها، فنقول إن من مع بشار إنما يقدسونه، لأنهم يقدسون أنفسهم، لأنهم يخافون عليه خوفهم على أنفسهم، وأغلب شرور البشر مبعثها الخوف. ليس بمقدور الإنسان الخبيث أن يؤذي من هو أصلح منه، ولو بدا في ظاهره أنه آذاه، فلربما استطاع له نفياً أو تهجيراً أو تجريداً من حقوقه المدنية أو حتى موتاً، وقد يبدو له كما يبدو لغيره أنه تمكّن منه، وأنزل به أفدح البلاء، ولكن الرأي الأهول به مصاب، هو ذاك الشر الذي أقدم عليه الخبيث، حين قضى على حياة إنسان بغير حق، وبشار رجل خبيث. [email protected]