عبد العزيز ناصر الصويغ - القسم السياسي -الجزيرة في ظل المتغيرات التي تشهدها المنطقة العربية من ثورات ومظاهرات أدت إلى تغيير في الأنظمة الحاكمة التي كانت تقمع الشعوب بكل ما أوتيت من قوة من أجل السيطرة، حيث إن هذه الأنظمة طبقت مفاهيم الدول الديكتاتورية الشمولية التي تعتقد أن العنف هو السبيل الصحيح من أجل ضمان استمرار الحكم، لكن المشاهد للواقع والمستقرئ والمتأمل في التاريخ يجد أن هذه الدول تتنافى مع أبجديات الطبيعة الإنسانية، بحيث إن الإنسان حر بطبيعته ويكره القيود المفروضة عليه لكن ارتضى لنفسه أن يحكم بالعدل في ضمان استمراره بالعيش، ولذا نجد أن دول الظلم والطغيان تزول بسرعة من على الوجود، وقد قيل دولة الظلم ساعة ودولة العدل إلى قيام الساعة، ولذا فإن المتأمل لما جرى للدول العربية يدرك أن غياب العدل من الأمور التي خلت بقانون الحياة فيها من أجل ذلك كان لابد من التغيير من أجل الوصول إلى الأفضل، ونجد أن الذي جرى من ثورات ومظاهرات قد لاقى صداً واسعاً عند المظلومين في أنحاء العالم فنجد حتى الغرب والذي كان يمثل قمة العدالة عند البعض وجد أنه غير عادل وما شهده من مظاهرات واحتجاجات يدل على ذلك. في هذا التقرير نحاول معرفة مفهوم العدالة وما هي النتائج المترتبة عن غيابها في الأنظمة الحاكمة ومفهوم العدالة في الإسلام مع استطلاع رأي شريحة من المجتمع تتحدث عن العدالة وأسسها من منظورها الشخصي. مفهوم العدالة: تباينت آراء المفكرين والباحثين حول هذا المفهوم وماهيته فالأستاذ فارس كمال نظمي عرف مفهوم العدالة في الفكر الاجتماعي أن العدالة تعد واحدة من أكثر الموضوعات قدسية وشيوعاً في السلوك الاجتماعي. ويمكن أن تتخذ وجوهاً متضاربة جداً حتى ضمن المجتمع الواحد. فأينما كان هناك أناس يريدون شيئاً، ومتى ما كانت هناك موارد يراد توزيعها، فأن العامل الجوهري المحرك لعملية اتخاذ القرار سيكون أحد وجوه العدالة. وللعدالة سيادة على غيرها من المفاهيم المقاربة، كالحرية والمساواة، ذلك أنها لا تقف عند حد معين. فقد يطالب الناس بمزيد من الحرية، وفجأة يضطرون إلى التوقف عند حد معين حتى لا تنقلب الحرية إلى نقيضها، إلا أنهم لا يستطيعون التوقف عن محاولة أن يكونوا عادلين. ولا يستطيع أي مجتمع أن يصل إلى درجة الإشباع في تحقيق العدل، لأنه لا يوجد حد نهائي للعدالة. فالعدالة بهذا المعنى هي الخير العام الذي يستطيع تنظيم العلاقة بين مفهومي الحرية والمساواة، إذ يكفل الموازنة بين الطرفين. ومع ذلك، فإن الظلم رافق وجود الإنسان منذ بداياته. فقد ظهرت التفرقة بين الناس، ونشأت بالدرجة الأولى عن مفهوم المِلكية الذي يعتمد على الأنانية والمصلحة الفردية. فمنذ أن انتقل المجتمع البدائي إلى مجتمع تنظيمي، اختفت المساواة وأُلغيت لأن جماعة من الأفراد تملكوا الأرض واستغلوا غيرهم. وبمرور الزمن صار لهم قانون يحميهم من كل عقاب، ويحافظ على مصالحهم، ويقر بشرعية الفروق المادية بين الفئات الاجتماعية. فتحولت هذه الفروق بالتدريج إلى فروق معنوية أصيلة. والواقع أن الإنسان دفع ثمناً غالياً لارتقائه إلى أشكال اجتماعية أكثر تعقيداً، إذ ترتب على المهارة وتوزيع العمل إن تغرب الإنسان وانفصل لا عن الطبيعة وحدها، بل وعن نفسه أيضاً. فأصبح النظام المعقد للمجتمع يعني أيضاً تحطيم العلاقات الإنسانية، إذ كان معنى زيادة الثروة الاجتماعية في كثير من الحالات زيادة فقر الإنسان. مشيراً إلى أن العدالة مفهوم يكتنفه الغموض، إذ يرى البعض أنه يظل تجريداً في عالم العقل لا سبيل لتطبيقه في عالم الواقع. وأن ما جرى تطبيقه من العدالة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية ما هي إلا محاولات يقصد من ورائها الحفاظ على الحقوق التي أقرها القانون الطبيعي والأخلاقي. ويذهب البعض مذهباً متفائلاً بقولهم إن الطبيعة البشرية قد ارتقت عبر التاريخ، مما خلق لدى الإنسان نوعاً من الرقابة الذاتية التي تلزمه باحترام قاعدة: ((عامل الآخرين بمثل ما تحب أن يعاملوك به)). ومن ثم أصبح يمتلك شعوراً داخلياً بالعدل ويتبنى آخرون موقفاً نسبياً بقولهم إن العدالة ما هي إلا تجلٍ لنفوذ الأقوياء في أي زمان. فالأفراد الأكثر قوة يصبحون أكثر نجاحاً، وفي النهاية يقنعون أنفسهم والآخرين بأن وسائلهم في تحقيق الأرباح والمحافظة على مكانتهم ليست مقبولة فحسب، ولكنها مرغوبة وأخلاقية وعادلة أيضاً. وينظر إلى العدالة من منظورات فلسفية واجتماعية مختلفة. فهناك العدالة القائمة على فكرة ((الحق))، وهناك العدالة القائمة على فكرة ((الخير)). وإذا كان تحقيق مفهوم ((إعطاء كل ذي حق حقه)) يقوم على فكرة أن استحقاق الإنسان لحقه يعود لمجرد كونه إنساناً، سميت عندها العدالة ب((العدالة الطبيعية)). أما إذا كان استحقاق الإنسان لحقه يقوم على قاعدة عامة يقبلها مجتمعه، سميت عندها العدالة ب((العدالة الاتفاقية)). وإذا كان هذا الحق يستند إلى قاعدة تجعل من ينتهكها مسؤولاً عن فعله أمام سلطة عمومية، سميت عندها ب ((العدالة القانونية)). وتشير ((عدالة التبادل)) إلى تلك العلاقات التعاقدية التي تلزم كل فرد أن يعطي غيره حقه كاملاً دون التفات لقيمته الشخصية أو مكانته الاجتماعية، بينما تحكم ((العدالة التوزيعية)) توزيع المكافآت وتعيين العقوبات، أي تحدد استحقاقات الفرد من مكافأة أو قصاص. وتعني((العدالة الاجتماعية)) نوعاً من المساواة له أهميته الجوهرية في تحقيق الصالح العام. وتتمثل ((العدالة السياسية)) في وجود نظام حكم يضمن توزيع الحرية السياسية والمساواة الاجتماعية والحقوق الطبيعية. أما ((العدالة الاقتصادية)) فتتحقق إذا ما نجح النظام الاقتصادي في إشراك جميع الأفراد في الحياة الاقتصادية، وفي توزيع الثروة عليهم بنسب تتناسب مع عملهم وإسهامهم في الإنتاج العام. وتتوخى ((العدالة الجنائية)) الدفاع عن المجتمع ضد الجريمة، وفي الوقت نفسه تقويم سلوك الجاني الذي خرج عن إطار المجتمع، مع ضمانها لحق كل متهم في أن يتمتع بمحاكمة تتيح له الحق الكامل في الدفاع عن نفسه حتى تنتهي المحاكمة إلى قرار سليم سواء بالإدانة أو بالبراءة. ويشيع أيضاً مصطلح ((العدالة المطلقة)) أو ((الإنصاف)) بوصفها عدلاً طبيعياً لا شرعياً. فالأنصاف يوجب الحكم على الأشياء بحسب روح القانون، أما العدل فيوجب الحكم عليها بحسب نص القانون. وفي علم النفس، يستخدم مصطلح ((العدالة الاجتماعية)) لوصف شعور معظم الناس بوجوب أن ينال الجميع استحقاقهم على أساس حاجاتهم وجهودهم. أما ((العدالة المتأصلة)) فتعني اعتقاد الطفل في سنوات حياته الأولى بوجود عقوبات تلقائية تنبثق من الأشياء بحد ذاتها. ويشير ((الاعتقاد بعدالة العالم)) إلى وظيفة نفسية تكيفيه بالغة الأهمية، تمكّن الفرد من مواجهة بيئته المادية والاجتماعية كما لو أنها مستقرة ومنظمة. وبدون هذا الاعتقاد يصبح من الصعب على الناس أن يلزموا أنفسهم بمتابعة السلوك الاجتماعي المنظم. من جهة أخرى يرى الباحث صاحب الربعي في مفهوم العدالة قوله أن العدالة قيمة أخلاقية من منظومة القيم العامة تحفظ حقوق المجتمع، لكنها تبقى مفهوماً نسبياً لا يمكن القطع بقيمتها المتوارثة والمكتسبة عبر الزمن لأنها عرضة للتغيير ولا يمكن عدّها قيمة تصلح لكل المجتمعات لتباين القيم الاجتماعية والدينية وبذلك فإنها قيمة ملتبسة. تختلف العدالة باختلاف طبيعة استخدامها في السياسة والمجتمع والدين فلكل منها مفهوم خاص لذلك لا يمكن تطبيقها من دون إدراك مفهومها العام في المجتمع، فمنظومة القيم العامة تعدّ نتاجاً لعقد اجتماعي بين مجموعة البشر تشترك بمصالح ولغة تتواصل من خلالها لخلق ثقافة مشتركة تحكمها عادات وتقاليد اجتماعية ودينية تشكل منظومة قيمهم الأخلاقية، ليكتسب مفهوم العدالة الصدقية من الجميع بعدّه غرساً تربوياً في اللاوعي الاجتماعي لا يحتاج إلى إعادة توضيح وشرح لارتباطه بقيمهم الأخلاقية العامة. يعتقد ((رولز)) «أن اتفاق مجموعة من البشر على مفهوم مشترك للعدالة، يتطلب وجود مصالح ولغة وثقافة مشتركة وجملة قيم تعاونية وعادات تفرض التزاما أخلاقياً عليهم «. يرتبط المفهوم السياسي للعدالة بالمصالح السياسية وليس بالقيم الاجتماعية، فالسياسي يحمل قيماً سياسية لا اجتماعية، لذلك لا يجد ضيراً انتهاكه للعدالة ويعدّها قناعاً يمكن التستر خلفها لخداع الجمهور الجاهل الذي لا يميز بين المفهوم السياسي للعدالة والمفهوم الاجتماعي للعدالة لأنه منصاعاً لإحساسه الفطري بالقيم العامة المغروسة عبر التربية في لا وعيه ويعتقد خطأً أن السياسي يؤمن بها. لذلك يستسلم إلى عواطفه من دون عقله، فيقع فريسة في مصيدة السياسي الذي يستغله أبشع استغلال. لا يمكن تحقيق العدالة الاجتماعية من دون تطابق مفهوم القيم العامة للعدالة على المستوى الاجتماعي والسياسي، ويتطلب ذلك الارتقاء بمستوى وعي الجمهور فكلما زاد الوعي الاجتماعي تقلصت مساحة خداع السياسي للجمهور، وإن زاد التخلف الاجتماعي توسعت مساحة خداع السياسي للجمهور. لذلك ليس سهلاً على السياسي في الدول المتقدمة خداع الجمهور الواعي حتى لا يخسر مستقبله السياسي المرتبط بصوت الناخب. يعتقد (( رولز )) «أن المفهوم السياسي للعدالة لا يؤمن استقراراً للنظام الاجتماعي من دون يتطابق مع القيم العامة للمجتمع». ويعدّ السياسة عديمة الأخلاق في الدول المتخلفة، ليس سهلاً على السياسي الالتزام بالقيم العامة للمجتمع لتطبيق العدالة الاجتماعية. وقد يتخذها قناع لستر زيف أخلاقه وتحقيق مصالحه الخاصة، فالكثير من رجال الدين الممتهنين للسياسة يرتدون أقنعة متنوعة ليوهموا من خلالها الجمهور الجاهل باستقامتهم وتقواهم وحرصهم على تطبيق العدالة وحالما يفوزون بالسلطة تتكشف أقنعتهم المزيفة. يقول ((كينيون غيبسون)): «إن السياسيين الفاسدين والمجرمين يسبغون مظاهر الاحترام والوجاهة على أنفسهم ليصبحوا مُثلاً ورموزاً فوق الشبهات حتى لا يتجرأ أحد المساس بهم «. لا يصح الحوار مع السياسي من دون سبر ثقافته ومستوى وعيه والتأكد من إيمانه الفعلي بالعدالة لأن منظومة قيمه مرتبطة بمصالحه الخاصة ولا تمت بصلة لمنظومة القيم العامة للمجتمع وإن تستر خلفها لكسب عواطف الجمهور الجاهل. من جانبه يقول الأستاذ عزيز العرباوي حول هذا المفهوم إننا نعتبر أن العدالة قيمة إنسانية لا يمكن البتة الحكم عليها بالفناء والموت. بل يجب على كل أفراد المجتمع حكاماً ومحكومين الاتفاق عليها وحمايتها. وهذه الحماية تكون بفرض القانون وتنفيذه والاحتكام إليه من طرف الجميع. فالاقتصار على فئات محددة من المجتمع والدفع بها إلى احترام القانون دون فئات أخرى تتميز بمزايا الجاه والسلطة والمال والنفوذ يفرغ العدالة من قيمتها الإنسانية والاجتماعية والحقوقية. إن هناك إجراءات قانونية تحتاج إلى مقاييس معيارية للحفاظ على مميزاتها وقيمها المتعارف عليها. فالعدالة التي تفتقر إلى هذه القيم في مجتمع ما تدفع أفراده إلى فقدان الثقة فيها، وبالتالي تدفعهم إلى البحث عن سبل أخرى للحفاظ على حقوقهم كالالتجاء إلى الخارج مثلاً أو طرق باب منظمات حقوقية وطنية ودولية لحمايتهم من انتفاء العدالة في مجتمعهم. وبالتالي تكون صورة هذا البلد وهذا المجتمع على المحك وتترك أثراً في عقول الآخرين الذين كانوا يعتقدون أن هذا المجتمع يتميز بتطبيق القانون واحترام العدالة فيه. نحن نحتاج إلى العدالة في مجتمعاتنا كأفراد أكثر منها كمجموعات مثلاً، لأن الفرد إذا ما لم يجد العدالة إلى جانبه في محنة ما يسقط فيها فإنه ينقلب إلى النقيض إلا ما رحم الله من الناس. فالعدالة مبدأ معياري لا يجب الحياد عنه وجعله غير معياري خاصة داخل مجتمع يعاني الكثير من المشاكل كالفقر والأمية والفوارق الطبقية والتمييز الثقافي والمجتمعي.... ولذلك يكون من الخطأ التفكير في الدفع بالعدالة إلى الفناء والموت. بكل تأكيد العدالة نوع من القيم الاجتماعية السائدة، وقد تكون أكثر من ذلك. فهي تحمي المجتمع من الانحلال والتفسخ وتجعل كل أفراده متساوين في كل شيء وفي كل الأمور الحياتية. بل هي الرباط المتين الذي يربط أفراد المجتمع ويجعلهم صوتاً واحداً لا يقهر. ومادام هذا الأمر غير متوفر فيه فلا داعي لأن نحكم على مجتمع من هذا القبيل بالتماسك والتكامل. كانت العدالة في وقت من الأوقات وتبعاً لثوابت دينية أو عرفية أو قيمية هي السن بالسن والعين بالعين وبالقصاص من مقترف الجرم كيفما كانت وضعيته، ثم أصبحت اليوم أكثر تطوراً وتغيراً فأصبحت تحتكم إلى قوانين وإجراءات قضائية وعقابية تمر عبر مساطر معقدة تنتهي بأحكام منطوقة أغلبها بالسجن والحبس أو بالغرامة المالية. وهذه التطورات في مفهوم العدالة في أغلب المجتمعات العالمية لم تستطع أن تحقق مفهوم العدل بين المتقاضين والمحتكمين إليها لأنها تفتقر إلى عنصر الحياد والاستقلالية في أغلب المجتمعات. ولذلك فالحكم على العدالة بالانتفاء والغياب ليس حكماً جاهزاً ومطلقاً أساسه المزاجية في الفكر والنظر، بل هي الرؤية العميقة للأمور في مجتمعات في زماننا المعاصر التي أصبحت فيها القيم الهدامة والبعيدة عن الأخلاق الإنسانية هي السائدة. فمن أجل السلطة والمال والجاه يمكن الدوس على القيم والضرب بها بعرض الحائط. ويقول الدكتور عمار على حسن في معنى العدالة أنها هي الجوهر الأساسي للفكر السياسي برمته، حسب رأي أرسطو، وهي الفضيلة التي تنطوي تحتها، وتترتب عليها، جميع الفضائل السياسية الأخرى، بل إن قيمة العدل تبدو شرطا أساسيا لوجود «الدولة» بتنظيمها القانوني والاجتماعي والسياسي، فإذا وُجد العدل في مجتمع بشري ما فإننا نكون أمام دولة، أما إذا غاب العدل فإننا نكون أمام أي شكل اجتماعي، لكنه ليس الدولة، ولذا يرى أفلاطون أنها السمة الأساسية للنظام السياسي الفاضل ورغم مرور أكثر من ألفي عام علي حديث أفلاطون عن العدالة فإن النظرية السياسية لم تحسم الأمر حول تحديد مفهوم نهائي لها، يتمتع بالثبات والرسوخ، وليس هناك اتفاق واضح بين البشر حول ما هو عدل وما هو ظلم، لكن هناك اتفاقا عاما على أن العدالة تعبير عن قيمة موحدة لا تتجزأ، وأنها لا تعني التوازن بين طرفين بينهما علاقة ما، إذ إن هذا الوضع أقرب إلى مفهوم المساواة منه إلى العدالة، إنما هي إعطاء كل ذ ي حق حقه، بغض النظر عن مدي توازن المصالح. وفي الفكر الأوروبي الحديث يدور مفهوم العدالة حول القانون والحق. ويربط جون ستيورات ميل العدالة بالمنفعة، ويري أن العدالة كغيرها من الصفات الأخلاقية الأخرى، يتم التعرف عليها بشكل أفضل حين نقارنها بضدها، أي بالظلم، ويؤكد أن من الظلم حرمان المرء من حريته الشخصية، أو ملكيته الخاصة، وكذلك حرمانه من أي شيء آخر لا ينتمي إليه بحكم القانون، شريطة أن يكون هذا القانون عادلا، أي لا يحقق مصلحة فئة بعينها، وإلا وجب عصيانه. ويعتبر ميل أن صفة العدل تلحق بأي فعل عندما يحصل الفرد علي ما يستحقه من خير أو شر، وأن التحيز، أو المحاباة في أمور لا يجوز فيها ذلك تعد مسألة منافية للعدل. المفهوم الإسلامي للعدالة: جاء الدين الإسلامي ليرسخ مفهوم العدالة وأن تكون جزء منه، الذي نجده متواجد في الأذهان العربية ولكون هذه الدول التي جرت عليها سنة التغيير دول مسلمة تعي المفهوم الإسلامي للعدالة. لقد دعا الإسلام إلى عدالة اجتماعية شاملة ترسيخاً لفكرة العدل كمبدأ، وتنمية لها كسلوك لأن العدل هو أهم الدعائم التي يقوم عليها كل مجتمع صالح. فالمجتمع الذي لا يقوم على أساس متين من العدل والإنصاف هو مجتمع فاسد مصيره إلى الانحلال والزوال. وعدالة الإسلام ذات سمة خاصة تميزها عن سائر العدالات. فمجتمع الإسلام يقوم على توحيد الإله وتوحيد الأديان جميعاً في دين الله الواحد، وتوحيد الرسل في الدعوة بهذا الدين الموحد منذ نشأة الحياة: قال تعالى (إن الدين عند الله الإسلام) و(إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون). ومجتمع الإسلام يقوم على الوحدة بين العبادة والمعاملة والعقيدة والسلوك والروحيات والماديات والقيم الاقتصادية والقيم المعنوية والدنيا والآخرة. ولقد أوضح سيد قطب في كتابه العدالة الاجتماعية في الإسلام أن هناك ثلاثة ركائز تقوم عليها العدالة الاجتماعية في الإسلام. هذه الركائز هي التحرر الوجداني المطلق و المساواة الإنسانية الكاملة و التكافل الاجتماعي الوثيق حيث أن كل عنصر مبني على الآخر. و يعني بالتحرر الوجداني هو التحرر النفسي من الخضوع وعبادة غير الله لأن الله وحده هو القادر على نفع أو ضرر الإنسان. فهو وحده الذي يحييه ويرزقه و يميته دون وجود وسيط أو شفيع حتى لو كان نبي من الأنبياء. فلقد قال الله عن النبي صلى الله عليه وسلم: «قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا»، سورة الجن، آية 21 كما قال: «يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا و بينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله» سورة آل عمران، 64. و الهدف من التحرر النفسي من الخضوع لغير الله هو التخلص من الخوف و التذلل لغير الله لنيل رزق أو مكانة أو أي نوع من أنواع النفع عن يقين أن الله وحده هو الرزاق. ولكنه قد ينجح الإنسان نسبيا في أن يتحرر من عبودية كل ما هو سوى الله تعالى في حين أن هناك احتياجات طبيعية بشرية خلقها الله في الإنسان أهمها المأكل تعوق التحرر الكامل والحقيقي. ومن أجل أن يحقق الإسلام هذا التحرر الوجداني بصورة فاعلية وواقعية، فلقد وضع الله من القوانين والتشريعات ما يضمن للإنسان احتياجاته الأساسية وبالتالي يساعده على تحقيق التحرر الوجداني الكامل. و من أهم هذه القوانين هو وضع مبدأ المساواة كمبدأ أساسي من مبادئ الإسلام. فبعكس كل من ادعى أنه من نسل الآلهة و كل من تصور أن دمه دماً أزرقا نبيلا أرقى من بقية الشعب، جاء الإسلام ليساوي بين جميع البشر في المنشأ و المصير. فلقد قال الله تعالى: «يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة و خلق منها زوجها و بث منهما رجالا كثيرا و نساء» سورة النساء، آية 1 وقال: «يا أيها الناس إن خلقناكم من ذكر و أنثى و جعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم» (سورة الحجرات، آية 13). كما قال: «و لقد كرمنا بني آدم و حملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات و فضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا» سورة الإسراء، آية 70. فالكرامة مكفولة لكل إنسان و الفرق بين الناس عند الله هي درجة تقواهم و ليس جنسهم أو لونهم. ومما يدل على ترابط العدالة أو العدل بالإسلام ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية ( وأمور الناس تستقيم في الدنيا مع العدل الذي فيه الاشتراك في أنواع الإثم، أكثر مما تستقيم مع الظلم في الحقوق، وإن لم تشترك في إثم، ولهذا قيل إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة، ويقال الدنيا تدوم مع العدل والكفر ولا تدوم مع الظلم الإسلام، إن العدل نظام كل شيء فإذا أقيم أمر الدنيا بعدل، قامت وإن لم يكن لصاحبها في الآخرة من خلاق، ومتى لم تقم بعدل لم تقم، وإن كان لصاحبها من الإيمان ما يجز ى به في الآخرة) . ويؤكد أستاذ العقيدة الدكتور خالد بن عبد الله القاسم أن العدالة بالجملة هي القيام بما أوجبه الله على الدولة ممثلة في ولاة أمرها من قيامها بأمر الدين والدنيا من حفظ الدين والدعوة إليه و تطبيق الشريعة والعدل بين الناس والنصح لهم والرفق بهم وتولية الأمناء الأكفاء ومحاسبة المقصرين والخونة وبذل الجهد لمحاصرة الفساد والرشوة ، وإعطاء الناس حقوقهم في إبداء الرأي وتشجيعهم على النصح بالضوابط الشرعية وتفعيل دورهم في الشورى ومجالس المناطق وتشجيع مؤسسات المجتمع المدني وتسهيل فتح الجمعيات الخيرية والعلمية والمهنية، والمحافظة على أمن الناس وسلامتهم ومن باب أولى عدم تخويفهم أو ظلمهم أو اعتقالهم دون محاكمة والعمل على حل مشاكل الناس الدينية بنشر العلم الشرعي وفتح المجال للدعوة إلى الخير دون تضييق، وإصلاح التعليم والبذل فيه، و إصلاح الإعلام ومراعاة ما ينشر فيه مع عقائد الناس، وحل مشاكلهم الصحية ببذل الجهد في المحافظة على البيئة ومحاربة الغش في المطعومات وكذلك التوسع في فتح المستشفيات والبذل في تخريج الأطباء والصحيين ، وحل مشاكلهم المالية بالسعي الدوؤب لإصلاح الاقتصاد والقضاء على الفقر والبطالة، والعدالة في توزيع الأراضي وكذلك الحال في القضايا الخدماتية كالبلديات والطرق والكهرباء والماء ونحوها و ومعنى ذلك تغليب مصلحة الشعب على مصلحة الأفراد ويجمع ذلك قوله عليه الصلاة والسلام :(خيار أئمتكم الذين تحبونهم و يحبونكم و تصلون عليهم و يصلون عليكم و شرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم) رواه مسلم . ولقد اعتنى علماء الإسلام في القديم والحديث بمفهوم العدل والعدالة وذلك لأن تطبيق العدل أساس صلاح الإنسانية وسعادتها والدعامة الرئيسة في إقامة المجتمع الإسلامي، وإذا ذهب العدل عن واقع الحياة البشرية شقيت وعاشت في دياجير الظلام . ومما يدرك أنه ليس ثمة مجالات محددة للعدل في الإسلام بل هو واجب في شتى نواحي الحياة المختلفة، سواء السياسية والاقتصادية والاجتماعية. المجتمع ومفهوم العدالة: إن المجتمع هو النموذج الذي تطبق عليه العدالة وهو المستفيد الأول والأخير من العدالة لذا كان لزاماً أخذ رأي شريحة من المجتمع وفهمهم للعدالة. يقول المبتعث عبد الرحمن الصالح يختلف الحديث عن العدالة بمعانيها المتعددة في التنظير والاصطلاح والتشريع والسياسة ولن أصل إلى ما قد ذهب إليه جون راولز عن مفهوم العدالة لأنني ببساطة لم أصل إلى ذلك المستوى من البحث بعد ، ولكن في اعتقادي البسيط بأن العدالة التي نتحدث عنها كشعوب عربية ذات دول ربيعية، حيث أن القصد من العدالة هي تلك المساواة الأفقية في المجتمع ، وربما لهذا السبب قد تبرر الكثير من الحركات القومية ونحوها، كونها السبيل الأقرب إلى تحقيق العدالة والمساواة بين المواطنين ، حتى أن صلوا إلى جعل المواطنين « أشبه» بالسلعة التي لاتباع ولكنها تعرض بنفس الشكل.. وهذا قد يكون أيضا تطرف في تحقيق العدالة وله أهداف وأبعاد اقتصادية أخرى أن العدالة في السياسة، ليست أحزاب تتناوش على سدة الحكم ، وليست مؤسسات قضائية ، ولكنها رؤيا مستحيلة التحقيق لأنها نسبية .. وهذا قد يجعلنا نتطرق نحو نظرية البحث عن الكمال، أو حتى عن مقولة «الحياة غير عادلة» ولكن باب الحاكم المفتوح قد يجعلها كذلك! الآن في ثورة الاتصالات وعصر السرعة، لا تحتاج الشعوب إلى أبواب مفتوحة ولكن إلى أذان صاغية, فلو استمعوا جميع من اُسقطوا من الحكام إلى طلبات شعوبهم الشباب، لم حدث ما لم يحمد عقباه. اعتادت الشعوب في السابق -قبيل الإنترنت- إلى الاستماع للحكام كثيراً عندما كانوا يسيطرون على القنوات والإعلام لكن الآن تغير الحال وهذا قد يجعل من الحياة عادلة، أصبح على الحكام أن يستمعوا إلى الشعوب.. فالأيام دول. والشعوب هم أحد عناصر تلك الدول ، ومن العدل أن نستمع إلى تلك الشعوب ، لا أن نبحث في معنى العدل فقط. ومن الأسس التي تجعل من الدولة عادلة أجدها في الرقابة على عمل المؤسسات بشكل دائم، ومحاسبة القضاء. من جانبه يقول الباحث القانوني عاصم الحصين أن مفهوم العدالة هو إعطاء كل ذي حق حقه وأن أساس العدالة التي تبنا عليها الدول العادلة هي في وجود نظام صالح ومتكامل «الشريعة الإسلامية، ووجود سلطة أمينة قوية قادرة على التطبيق هذا النظام. أما الأستاذ عبد الإله عامر يقول حول المفهوم العدالة هي أن يكال للجميع بمكيال واحد لا يفرق بين المواطنين لا بحسب ولا نسب ولا مركز ولا منصب. أما المهندس منذر السريع يعبر عن مفهوم العدالة بقوله هي المساواة هي أن تعطي للآخر مثل ما تعطي لنفسك، وكذلك أن تعطي لنفسك مثل ما تعطي للآخر, وحين ترفض هذا تكون واقعاً في الظلم وكذلك بقدر رفضك للعدالة بقدر ما تقع في الظلم وعندما يفقد الإنسان العدل يفقد الأمن والإخلاص وكذلك يجب أن نفهم جيداً أن الأهداف والتوجهات والقوانين يجب أن تكون على أسس مبنية على العدالة لا أن أضع قانون يتبعه غيري وأنا لا أتبعه أو قليل من الناس كذلك لا أن أصنع منتج يأكله غيري وأنا لا أكله خوفاً على صحتي أو أصنع سيارة لا أركبها ويركبها غيري وهكذا في البناء وفي التعليم وفي الصحة ولذلك نجد أن الدول المتقدمة بنيت على أسس العدالة والمساواة بين كافة أطياف مجتمعاتها لا تفريق في خلفياتهم ومرجعيتهم الكل سواسية وما تقدمه تلك الدول يقدم للجميع وكذلك في الحق بالحصول على المتطلبات الضرورية للعيش وليس بالمطالبة بالقوة أو تضيع الوقت في المحاكمات أو البحث عن طرق استثنائية ولذلك نجحت تلك الدول في تحقيق متطلبات الشعب بالوفرة والرخاء وذلك جعلها تغري الكثير من البشر في العيش فيها وتقديم الأفضل لها. ويشترط لتوفر العدالة شرطين هما التنظيم والعدل هذين الشرطين أساس نجاح أي مجتمع فبالعدل والتنظيم يسهل على جميع أفراده الحصول على متطلبات الحياة بكل سهولة ويسر وفي كل المجالات كتوفير التعليم الذي يرتقي بنا وبأجيال المستقبل لا تميز ولا تصنيف كذلك في تقديم الرعاية الصحية مع مراعاة مختلف شرائح المجتمع وتفهم ظروفهم المحيطة بهم وفي تقديم الخدمات على أعلى المستويات دون تأخير أو تنويع في وضع الشروط والمتطلبات وكذلك في توزيع الثروات على أسس عادلة مع مراعاة الأهداف المستقبلية ولنجاح هذه الأسس وتفعيلها يبقى لدينا فهم متطلبات المجتمع باستمرار وبدقة ومراقبتها كذلك في نشر حرية الرأي والشفافية ودور المسؤولية تجاه هذا المجتمع وتجاه أفراده. من جهته قال المبتعث عادل الفاضل أن العدالة كلمة كبيره لها معاني و كل معنى له وضع مختلف عن الآخر، هناك أنواع من العدالة سياسية اقتصادية، قضائية وكل هذه تندرج تحت العدالة المعيشية ولكن لن أبحر بالموضوع في اتجاه آخر هناك عدالة مع أنفسنا أي كيف أكون عادلا مع نفسي وهذا مجاله أكبر من موضوع نقاش بسيط, اعتقد أن العدالة في الأوضاع المعيشية السابق ذكرها تكمن في أنفسنا فبل أن نطلبها من غيرنا لايمكن أن نحصل من الآخر على حق أو لا يمكن أن يطبق العدل علينا ما دمنا نفكر بأنفسنا بغض النظر عن الطرف الآخر ولا يمكن أن نحصل على أي شي على أساس أنها منحة فالنفس البشرية جبلت على تملك الشيء وعلى عدم التفريط به مهما كان تبعات ذلك، لنأخذ الشعب السوري كمثال هذا الشعب الصامد الأبي والرائع يبحث الآن عن عدالته، عدالته في المعيشة و باعتقادي ليس كلهم يطمحون عن العائد المادي بل بعضهم تضرر من هذه الثورة ولكن يبحثون عن وجود تقدير من الطرف الآخر لهم الطرف الآخر الذي ظل يستخف بعقولهم لعقود من الزمن ويسيرهم وفق نظام يرضى به الأقلية ويرفضه الأغلبية ولكن كانوا غير قادرين على إعلان هذا الرفض لتبعات ما يجري عليه. أما تركي أحمد فيقول أنا أرى بأن كلمة العدالة والتي مشتقة من كلمة عدل لها أسس ثابتة لا تتغير بتغير الزمان والمكان، فهي موجودة في جميع الحكومات التي تعمل بها فإما أن تكون حكومات ملكية أو جمهورية أو ديمقراطية أو الديانات سواء الإسلامية أو المسيحية أو اليهودية. ويضيف قائلاً بأن العدالة تأتي في تطبيق الحق وتجنب الباطل، وفي محاسبة الخارجين عن النظام أين كانت صفته أو مرتبته، واحترام شعور المواطنين وأخذ آرائهم وفي تطبيق مبدأ الشورى في الدولة. ويوافقه المهندس ناصر الدريس حيث يقول مفهوم العدالة هي تحقيق المساواة في التعامل ( سواء كان في القضاء أو في الجهات الحكومية أو الأهلية) مع اختلاف أعراق وديانات وطبقات الاجتماعية للناس. وأن أسس تطبيق العدالة تكمن في حرية الكاملة في التعبير بشرط لا تتجاوز حدود الأدب وفي نزاهة القضاء واستقلاليته. غياب العدالة.. والربيع العربي: من النتائج المتوقعة لغياب العدالة بين الحاكم والمحكوم هو ما حل ببعض الدول العربية بما يسمى بالربيع العربي والذي أدخلها في تغيير عملية تغيير جذرية لنظمها السياسية. في الواقع الذي شهدته منبع الثورة تونس ينم على أن نظامها السياسي كان قمعياً مضطهداً للحريات مغيب للعدالة في حكمه مما جعل الشعب يفور ومن ثم ينفجر في وجهه من أجل التغيير ومن ثم لاقت صدى دعوات التغيير المظلومين من الدول المجاورة والتي تعاني من غياب للعدالة.ويقول الدكتور على مبروك حول غياب العدالة إن الدولة العربية الحديثة كانت دولة قوة وليست دولة عدل، والربيع العربي الحاصل حاليًا هو احتجاج على دولة القوة، وسعى لتجاوزها إلى دولة العدل. ومن هنا نعرف أننا الآن بحاجة إلى أن نعيد مفهوم العدالة إلى الأنظمة الحاكمة سواء العربية منها أو العالمي وأن يتم نبذ الأفكار الميكافيلية منها لكي تنعم الدول بالاستقرار وبناء حضارة أمنه لأجيال المستقبل.