كان ظاهراً أنه لم يفرج عن الشيخ نواف راغب البشير بعد أكثر من شهرين من الاعتقال إلا بعد إجباره على الظهور على التلفزيون السوري ليقول كلاماً يناسب النظام. ولا يبدو النظام حريصاً على إخفاء هذا الواقع. فما يأمله ليس أن يقتنع السوريون بمضمون كلام الشيخ عن الإصلاح والرئيس، بل أن يلحق العار بالرجل كشخصية معارضة معروفة. وكان سبق أن فُعل الشيء ذاته مع الشيخ أحمد صياصنة، خطيب الجامع العمري، الذي ينال احتراماً واسعاً في مدينته، درعا. الغرض أيضاً النيل من رمزية الرجل وتشويه صورته في عيون عموم السوريين. لا مطمع للنظام في إثبات عدالته وكرامته هو. غاية ما يريد هو إذلال مواطنيه المعارضين وتجريدهم من الكرامة. ولا يبدو أن بال النظام انشغل أيضاً بواقع أنه، وإن لم يقتل زينب الحصني، قتل امرأة غيرها، وقطع رأسها وذراعيها وحرق وجهها بحيث يمتنع التعرف اليها. وأنه قتل أخ زينب وتسلمت أسرته جثته، مع الجثة المفترضة لزينب نفسها. ما يهمه هنا أيضاً هو تكذيب رواية انتشرت عن مقتل زينب، والنيل من صدقية الثائرين عليه، أكثر من إقناع الناس بصحة رواياته وعدالة تعامله. وكان إعلام النظام اعتنى بتكذيب مقتل أحمد بياسي، وبإظهاره على التلفزيون السوري للنيل من رمزيته أيضاً، وإن اثبت ذلك أن استخبارات النظام وشبيحته هم من أذلوا سكان بلدة البيضا، وتعاملوا معهم بطريقة استعمارية. وفي حالتي زينب الحصني وأحمد البياسي من المحتمل جداً أنه جرى تسريب متعمد لخبر مقتلهما من أجل تكذيبه في ما بعد والنيل من صدقية الثورة السورية ووسائل الإعلام المهتمة بتغطيتها. تقول هذه الوقائع الأربع شيئين: أولهما الترابط الجوهري الوثيق بين المركّبين الأمني والإعلامي في سورية، ذاك الذي ينتج الخوف وهذا الذي ينتج الكذب. ليس عارضاً الترابط بين هذين المركبين الاستراتيجيين للنظام. فوظيفة الإعلام هي تسمية الأشياء بغير أسمائها، فيما وظيفة الأمن هي منع تسمية الأشياء بأسمائها، أي أنهما يتوحدان في نصب الحواجز بين جمهور المحكومين السوري وبين تكوين صورة صحيحة عن وضعه والتوجه بصورة سليمة في العالم. ومن وجه آخر فإن الإعلام هو جهاز التقديس أو شبكة معابد الدين السياسي المفروض في سورية منذ أربعة عقود، أي عبادة الحاكم، فيما الأمن هو شبكة أدوات العنف التي تعاقب الكفر به أو التشكيك بهذا المعبود. لذلك اعتنى النظام دوماً بأن يوكل هذين الجهازين الاستراتيجيين لموثوقيه المقربين. ولذلك أيضاً فإن هذين المركبين الجهازيين لا يقبلان الإصلاح بتاتاً. هل يمكن إصلاح الخوف؟ أو الكذب؟ وهما على كل حال ليسا مؤسستي دولة، بل جهازا النظام الحالي، فلا بقاء لهما من بعده، ولا بقاء له بزوالهما. الشيء الثاني هو أن ما يريده النظام ليس الفوز بمعركة الحقيقة، بل إظهار أن الجميع كاذبون على حد سواء، على ما كتب عروة نيربية قبل حين. أو بالضبط أن «تضيع الطاسة» وفق قول سوري سائر، بحيث لا يُعرف حق من باطل وصدق من كذب. يعلم النظام أنه لا يستطيع قول الحقيقة أو تحمل أكلاف تمكين عموم الناس من معرفتها، فيفضل أن لا تكون هناك حقيقة. كل ما يقال أكاذيب وأباطيل، بحيث تغرق الأمور في النسبية، ويكون الجميع «في الهوى سوا». هل إعلامنا غير موضوعي؟ لكن الموضوعية المطلقة غير موجودة. وهكذا يغدو التزوير المتعمد مثل الانحيازات غير الواعية، والكذب يغدو مثل الإيديولوجيا، وجريدة «البعث» مثل «الإندبندنت»، والتلفزيون السوري مثل «الجزيرة» («الخنزيرة» في لغة «المنحبكجية» السوريين). ومثل ذلك على صعد أخرى. هل لدينا فساد؟ ولكنْ، هناك فساد في كل مكان من العالم. وهو أصلاً ينبع من الطبيعة البشرية بالذات. وهكذا تستوي أوضاع فساد قائمة في بلدان كثيرة من العالم مع بنية قائمة جوهرياً على تسخير المؤسسات العامة والدولة ذاتها لخدمة المصالح الخاصة، وتشغل نخبة السلطة فيها موقعاً امتيازياً غير مراقب حيال الموارد الوطنية. الغرض هنا أيضاً تحطيم أية معايير تتيح نقد الواقع. فالعالم كله فاسد، ولا فرق تالياً بين فساد وفساد. وليس هناك ما يمكن أو يجب عمله. وسيكون مهماً إبراز وقائع سجني غوانتانامو، وأبو غريب في العراق، لأنهما ييسران أمر اعتبار الاعتقال العشوائي والتعذيب أشياء عادية تحصل في كل مكان من العالم، بما في ذلك عند من «يتشدقون بالديموقراطية»، وهو ما يعود بالطبيعية على الأجهزة الأمنية السورية التي تعتقل المواطنين السوريين وتعذبهم. ألم تروا «الديموقراطية الأميركية» في العراق؟ وسيكون إفراطاً في التدقيق القول إن الأميركيين يعذبون أعداءهم غير الأميركيين، وأن الإسرائيليين يعتقلون ويعذبون الفلسطينيين وليس اليهود الإسرائيليين، فيما تعذب المخابرات المواطنين السوريين. فالغرض دوماً ليس إيضاح الواقع بل صنع مزاج وسيكولوجية كلبية (سينيكية) ترى العالم مكاناً خطيراً لا صلاح فيه، والناس فيه كاذبون وفاسدون ولا ذمام لهم. وتالياً لا جدوى من فعل أي شيء، ولا معنى لإصلاح أو تغيير، وليس بالإمكان أبدع مما هو كائن. وهكذا، بدل أن نسعى إلى الخير أو العدل أو الحق أو الحرية، سنيأس من جدوى أي عمل ونقبل الواقع كما هو. من قد لا يسلّمون بذلك بيننا يسحقون، ويقال عنهم إنهم طلاب سلطة ومناصب. أي أنه لا قضية لهم ولا مبدأ، وغاية ما يريدونه هو الحلول محل الحاكمين الحاليين أو «تقاسم الكعكة» معهم. قد يكون الذين في السلطة اليوم لصوصاً، لكنهم شبعانون، فيما معارضوهم لصوص وجائعون، لذلك فإن لصوصاً نعرفهم خير من لصوص لا نعرفهم. وعلى هذا النحو يحوز الواقع القائم شرعية سلبية (أقل سوءاً من غيره) وهو المفتقر إلى أية شرعية إيجابية (أفضل من غيره، أو الأفضل). المطلوب إحداث فوضى قيمية بحيث تتشوش مدارك الناس جميعاً وينفلّ حسهم بالعدالة وقدرتهم على النقد والتقويم. وهذا مناسب كي تدوم الأوضاع نفسها إلى الأبد. خلاصة كل ذلك هي: «الأسد أو لا أحد»! أي ببساطة لا بديل. وليس غير الفوضى والخراب والحرب الأهلية ما سيأتي بعد هذا النظام. والأهم من ذلك أن يبدو هذا كله من طبائع الأمور، قدراً، وليس شيئاً مصنوعاً ومتعوباً عليه. مع ذلك يتمرد السوريون. لكنْ، لذلك تمردهم مأسوي، ومنتج للمعنى.