الأحد 12/8/2012: نساء ولغات شارع النساء واللغات يؤول إلى رجال كثيرين ولغة واحدة، ولا تألف بنايات الشارع ساكنيه الجدد ولا يألفونها. لقد أُنشئت لتؤوي أناساً غيرهم يحتفون بالمساحات الصغيرة، يوسعونها بالقراءة والموسيقى، وبالجدران مغطاة بالمرايا والملصقات التشكيلية والمسرحية. المرأة في هذا الشارع وطن صغير يأبى العزلة، يتوسل الحب ليقفز فوق الأسوار. إنها جسد يتخلق حين يلتقي الآخر الغريب، طالباً الحب التعدد. شارع النساء ألوان وأضواء وموسيقى، وشارع الرجال وطنية متصلبة تقهر الآخر، تعتبره عيباً، مفضلة الاختناق على الهواء الغريب. المدينة بلا غرباء ليست مدينة. ومدينة الأهل خليقة باسمها الحقيقي: سجن الجسد والعقل والروح. الاثنين 13/8/2012: ردم الكتب أسكن في شارع كان للنساء. كنت مسافراً فلم أشهد رحيل أواخرهن في سفن مخصصة للأجانب، كن يتعجلن تحت رصاص المتحاربين وعلى وقع القصف. قال بواب البناية إن الروسية البيضاء تركت كتباً من عهد القياصرة بعدما فاضت من الحقائب. وحين نقل التاجر أثاثها، فرحاً بما اشترى، لم يأبه بكتب وأسطوانات مبعثرة في زوايا الغرف. تاجر يفتقد الذكاء، قالت لنفسها، ولم تر جارة، لم تر جاراً، لتهدي ما ترك التاجر، وكنت مسافراً فلم أحظ بالهدية. قال البواب إن عمالاً نظفوا الشقة، نقلوا الكتب والدفاتر والأسطوانات مع حطام خشب وزجاج إلى حيث يردم أهل المدينة البحر. اليوم بنايات عملاقة بلا سكان، مبنية فوق مقتنيات نساء هاجرن بلا عودة. واليوم يتكرر رحيل نساء ولغات، ويؤول الأمر إلى رجال أتوا من البوادي القريبة والبعيدة. فليعش الصراخ والرصاص ولتسقط الكتب ومعها الموسيقى. الثلثاء 14/8/2012: سعاد تحمل اسم سعاد، شقيقة الديكتاتور السوري في الخمسينات، وتطل من الشرفة القديمة الباقية، مع فارق أنها الحفيدة لا الجدة، تسقي زهراً ونباتاً أخضر في أصص الفخار فيتساقط بعض الماء على الرصيف، ولا ضرر لأن المارة يقلون عدداً والجيران تبدلوا، لا تحية الصباح هنا ولا تحية المساء. سعاد تكتب مسرحيات قصيرة وسيناريوات تصدرها بأسماء آخرين وتقبض ما يعينها على العيش. سيدة وحيدة قيل إن زوجها هجرها بعد سنوات قليلة، لم تثبت قدمها في الزوجية وما احتفظت بالعزوبية مفتوحة على حب وزواج. في هذا الشرق تنكسر المطلقة وتصير عرضة للأقاويل، يأتي الانكسار من دخيلتها لا من المحيط، وسعاد لا تحفل بمجتمع يتبخر ولم يبق منه سوى أسماء مشغولة بهمومها، كما لا تحفل باحتمالات الحب، يأتي أو لا يأتي، لا فرق، إذ تجد نفسها في المدينة، حتى في أجواء التهيؤ للحرب بفراغ الشوارع وشكوك النظرات والتحسب في الكلام. تتذكر سعاد أصلها الكردي ولا تسعفها اللغة لتتصل بقومها الناهضين، لقد تعرّبت عائلتها تماماً حين بدأ العرب يخلون مكانتهم لمن يرطنون بالفرنسية ثم بالإنكليزية ولمن يحفظون جيداً أصولهم الكردية أو التركية. كانت جدتها تفخر في دخيلتها بجمال عبدالناصر على رغم معارضة العائلة للعسكري المصري المتمادي. والحفيدة سعاد تشهد غروب العروبة من شرفتها البيروتية حيث تختلط العواطف، فما عادت الوطنية وطنية وصار الحب جسدين يلتقيان قليلاً ويفترقان كثيراً. الحب هنا مثل المخدرات يخشى شمس الشرعية والحقيقة ويلحق ندوباً في الروح. وسعاد التي تسقي زهر الشرفة ونباتها، لا مكان تسافر إليه لذلك تفوتها بواخر الأجانب ويبقى وطن ليس وطنها. ولا وطن غيرها. وطن بلا مواطنين. الأربعاء 15/8/2012: شفاء باريس ليست باريس سريراً ولا قلقاً على سرير. وإنها جراحة عابرة فالجسد يتجدد بأسرع مما تتجدد الروح. باريس الأرصفة العريضة والشمس على واجهات المحال وعلى نظارات العابرات بلا هدف. على أرصفة باريس استعراض جمال يتغلب على بشاعات أفكار تغزونا مثل غازات سامة. ومثل أسلحة كيماوية هذان الكلام المعارض والموالي، أي هذا الكلام الكيماوي الواحد الموحّد. الجمال في باريس يرد الروح ممزوجاً بابتسامة قليلة، والجسد يشفي نفسه بنفسه. الخميس 16/8/2012: هنا القاهرة الآن يبدأ تاريخكم، فأنتم في طور الطفولة الأولى، هكذا نريدكم وإن كنتم حقيقة في سن الشباب أو الكهولة. ننصح بالخضوع لبرنامج محو الذاكرة والتفاعل معه ليبدأ عهد جديد أو بالأحرى متجدد، أو إنها الولادة الثانية نريدها للمواطنين جميعاً. ولادة جديدة، أفضل لكم من النقاش عن التراث والحداثة والخلاص من الماضي أو من الحاضر وما سوى ذلك مما يضجركم كما أضجر آباءكم والأجداد. الأفضل هو برنامج المحو والولادة الجديدة، ليس من صفر إنما بالتواصل مع المعنى الذي نريده إرثاً لكم، ونسميه النهضة هذه المرة، فيما كنا نسميه الصحوة والطريق وما إلى ذلك. الجمعة 17/8/2012: «قصيدة الإغريق» يستعيد محمد بن صالح فجر الشعر الأوروبي باختيار وترجمة «قصيدة الإغريق» (صدر في منشورات الجمل - بغداد، بيروت 2012). من اليونان بزغ فجر الشعر مختلطاً بالتأمل والمسرح وزبدة تجارب العيش وكسر الفواصل بين الواقعي والمتخيل والأسطوري. ربما يعيد محمد بن صالح بترجمته قضية الشعر إلى صورتها الأولى، فليس الشعر لعبة لغوية ولا هو استغراق في سرد اليومي ولا هو رسالة سياسية أو دينية، إنه كل ذلك مضافاً إليه ما يميز الشاعر عن غيره. نقتطف مقاطع من هزيود، من قصيدته «الأعمال والأيام» ومعها «الشذرات»، شاعر الرعاة والعيش في الطبيعة، يربط في قصيدته نجمة السماء بصخرة الأرض، بما يذكر بشاعر عربي من بعده اسمه امرؤ القيس. من «الأعمال والأيام»: «عندما، بعد ستين يوماً من التحوّل الشمسي، عندما يكون جوبيتر أنهى دورة الشتاء، والنجم أركتوروس قد رحل عن بحار المحيط المقدسة، وارتفع، وقبل غيره ائتلق. عندما يكون الليل قد أقبل، وابنة بانديون، خُطّافة البحر النائحة، للناس قد ظهرت، والربيع بعدُ ابتدأ. عندها، اسبق مجيء الخُطّاف وشذّب الكرمة: تلك أفضل الأوقات، لكن، عندما الحلزون، هرباً من الثريا، يتسلق الأعشاب، فذاك ليس وقت الحفر، ذاك وقت سنّ المناجل وحثّ العبيد على العمل. اهجر الراحة تحت الفيء، أيام الحصاد، عندما الشمس تنشّف الأجسام، واهجر نعاس الصباح. تعجّل أمرك: جمّع القمح في بيتك. ولكي يكون محصولك كافياً اسبق طلوع الفجر، الفجر ينجز ثلث العمل. الفجر يحثّ على الكدّ، الفجر يعجّل بالسفر. في كل مكان، يضع الفجر الناس، مذ يلوح، على الطريق إلى العمل. عندما، يُزهر النبت الشوكي، والزيز ذو الصوت الرخيم يحط أعلى الشجرة، ويطلق صوته العذب مخفقاً جناحيه، عندما الصيف يصبح ناراً موقدة، عندما يسمن الماعز، والخمر تصبح رائعة، والنسوة أوج الاشتهاء، والرجال أقصى الوهن، لأن سريوس يثقل الرؤوس منهم والرُّكب، ويجفف أجسامهم بناره الملتهبة، عندها: أرح جسمك تحت ظل الصخور». ومن «الشذرات»: «يقول هزيود إن العندليب هو الوحيد بين الطيور الذي عن النوم ينعطف ويسهر طوال الليل وإن الخطّاف لا يسهر الليل كله، وإنه فقد القدرة على النوم. يقول هزيود: وجب أن تكون لوالديك مطيعاً. زارع شجرة الزيتون أبداً ما جنى منها غلالاً. الأمر يتطلب وقتاً».