جيلان وثقافتان تلتقيان وتتنازعان في «تحت العريشة» الصادر عن دار الآداب بترجمة عربية لماري طوق التي يبدو جهدها واضحاً في الاحتفاظ بروح اللغة الأصلية وإضفاء طراوة الانتقال الى لغة مختلفة. الكاتبة هيام يارد (36 عاماً) نالت جائزة «الفينيكس» لدى صدور روايتها في 2009 من خلال لجنة ضمّت كتّاباً لبنانيين وفرنسيين بينهم أمين معلوف. ولئن قابلت يارد، في سيولة شعرية مكثّفة، بين مقاربتين للحياة، واختزالين للمرأة، أتى حرصها الكبير على جماليات اللغة وامتدادها من تراثها الفرنسي، وإن لم يبتعد من التركة الأدبية العربية العاشقة للغة المشغولة. في غياب تام للأم، تعرض الراوية الحفيدة تاريخها مع الجدّة التي يؤشر رحيلها في حرب تموز (يوليو) 2006 الى نهاية حقبة وبداية أخرى في تاريخ البلاد المضطرب. هي مجاز، كما هي شخص حقيقي، بالقوة والوجع نفسيهما، وإذ تتبنى الحفيدة صوتها، وتجمعه بصراخها، تتجاور التجارب الحياتية والنداءات حباً ومرارة، قناعةً ونهماً، سلاماً وحرباً. تبدأ الرواية بعزاء الجدة الذي تظهر فيه حقائق مجتمعها وبعض حقيقتها في صيغة غنائية يصقلها ضمير المخاطب، وروح هجائية تبقى أليفة وإن بالغت (معطف فرو في تموز؟). من المعزين امرأة الفرو التي تلاحظ جمال الطقس وهي تأكل القريدس، جولييت التي انخفض وزنها الأصلي عن وزن السيليكون الذي حشت جسدها به، ووسام «القاتل بالخطأ». اختطف ابنه واختفى في حرب 1975- 1990، فأقبل على العنف خاطفاً قاتلاً إلى أن وضعت زوجته طفلها السادس ابنة دعاها باسم الجدّة وتاب. أتى أيضاً رجل فرنسي كشف للراوية الحفيدة علاقة جدّتها بوالده. الجدّة الأرمنية التي تمسّك قومها بهويتهم أحبّت يهودياً بعدما ترمّلت مطلع عقدها الثالث، ورفضت خطّابها. لكنها عشقت يوسف وبقيت تراسله على رغم توقفه عن الرد. تجلس الحفيدة تحت العريشة مع يوسف وتعيد اكتشاف جدتها. كاهنة الحب الصوفية لجمت رغبتها واتفقت مع زهد يوسف بالجسد بعد إقبال «حيواني» عليه. اعتقدت الحفيدة أن جدّتها لم تتزوج لتفوّق الجد الراحل على طالبي يدها، ثم اعتقد القارئ أن عفة يوسف منعت العلاقة الجسدية الى أن حمّلها مسؤولية سقوطه مع لولودجا في باريس. زارها طوال عشرين عاماً وتحدّثا في الثقافة لينسيا حباً خشيا أن يكون أضعف من الصداقة. لا يصارحها يوسف بحبه إلا حين يغادر الى فرنسا وهو يدرك أنه لن يعود، لكن هل كانت علاقتهما حباً عظيماً أم آمناً؟ ألم يخالط روحانية الإثنين كثير من الحسابات العملية؟ رسائلهما مشغولة، مزوّقة يقول في إحداها: «أبداً لن أكف عن حبك حتى لو حكم علي بالخلود»، فترد: «لا شك في أننا خفنا من أن نكون إلهين محطّمين، عاجزين حتى عن الوقوف (...) لدي في شراييني أكاسير ذرّات تيتّمت من دونك». رواية أفكار «تحت العريشة» رواية أفكار تتصارع عبر الجدّة والحفيدة. الحب والتسامح والكبت والأمل إزاء الجسد والنقمة والفراغ. لا تنسى الأولى تاريخ أسرتها الأرمنية الثرية على ضفاف البوسفور، وهربها بعد المجازر على طريق مفروش بالجثث المقطّعة الرؤوس والأطراف. توفيت والدتها وهي تنجب، فقنعت بنصيبها، ووجدت الرضى في العطاء. تمسّكت الغريبة بوطنها الجديد ولغته التي لا تتقنها، وأحبت زوجها «قدر ما يستطيع الإنسان أن يحب». لم تمارس مسيحيتها على رغم غلو المشاعر الدينية في الحرب، وقرأت كتب الأديان الرئيسة رافضة الحكم المسبق أنها تنتمي الى الدين الوحيد الصحيح. انحاز تاريخها الى الحياة، فبقيت وحيدة في منزلها المكشوف على خطوط التماس طوال الحرب. تلصّص القناصة عليها، وأيقظها ذات ليلة مقاتل يحمل سكيناً. الجدة فنانة لكنها لا ترسم أو تنحت بتاتاً في الرواية، بل تفيض بحبها عمن حولها، وتقص الصور من الصحف فيما القنابل تنهال على منطقتها. «تاجرة حب بالجملة» تغدق قلبها على البشر والكلاب والقطط المهجورة، وتقول لأولادها: «هنا الحياة تتابع سيرها». الجدّة قصيدة حب للبنان اختفى. لبنان فيروز والصور بالأبيض والأسود حيث لا مبنى هناك يشوّه الجبل، مقابل بلد الراوية المولودة وسط القتل والدمار. هل كان انتصار الجدة على تاريخها بقوة الحب الكبير الذي عرفته وعصا حفيدتها، أو بالثروة الروحانية التي اكتسبتها بنفسها وغفلت الحفيدة عنها؟ استدان زوجها ليضيف الحديقة التي أحبتها الى البيت، ولم يبدُ حب يوسف لها كلاماً فارغاً. والدة يوسف اليهودية أيضاً حظيت بحب استثنائي أعمى صاحبه عن سمعتها السيئة. أنجبته من حافظ الذي رفض حمايتها بالزواج منها، فتبنّاه ملكون الأرمني الذي دعا نفسه «أبو يوسف» على رغم إنجابه ذكراً. يحقد الفتى على أمه، ويفقد إيمانه بعد مجزرة الأرمن، ويجد الغياب الذي ينشده في الفجور. تستردّه والدته راحيل من ضياعه في موقف مسرحي خالص عندما تصارحه وتبكي. يعمل في الآثار والتحف، وتصيبه المحرقة في الحرب العالمية الثانية بالرعب، ثم تدفعه حرب 1967 للهجرة الى فرنسا. ينام مع لولودجا البوهيمية بديلةً عن حبيبته، ويحقد على هذه ويعزو سقوطه الى تمسّكها بالعفة علماً أنه هو أيضاً نذر نفسه لها. يهاجر الى الأرجنتين وهو يجهل أن ثمة ما صمد من اللقاء العابر. «المني هو أنا» يقول ابنه أوجين بفجاجة للحفيدة في عزاء جدّتها، هذه الفجاجة التي تصفع القارئ مراراً وترتبط غالباً بأعمال الكتّاب الأولى. مقابل الحب الذي تدوم ترديداته العمر كله لدى الجدة، لا تعثر الحفيدة على الحب الذي تبحث عنه. ترفض اسكندر المتباهي الذي يريد شراءها، وتقبل في العشرين بزواج غريب من فيصل الخاضع لسلطة والده. يطلب أهله يدها بعد موعدهما الرابع من دون علمهما فتقول: «لمَ لا؟» بخفة لا تتفق مع الوعي الذي تبديه إزاء اسكندر. تعترف بأن عمرها حينها كان «عقدين من القصص الخرافية» وتكتشف أنها تزوجت من ضفدع. عجز عن التكيّف مع رغبتها الكثيرة، واقتصد في الحب وأقلقه زخمها العاطفي. عمل مع والده الذي عاقبه على عصيانه بحرمانه راتبه، فقرّرت أنه مستعمَر كبلادها. طلّقته فاحتفلت جدّتها بفتح زجاجة شمبانيا، وارتمت الحفيدة في أحضان أجساد عابرة وهي تخلط بين الحب والجنس ولا تجد إلا الفراغ. غارت من قصة الحب الكبير في حياة جدتها، وقالت إن جدّها كان كغيره من الرجال. جدتها بديل والدتها، وشقيقة روحها، وإذ يفخر والدها بأصله البورجوازي تُسمعها الجدة أغنية «البورجوازيون» لجاك بريل الساخر من غبائهم. تقول إن زوجها يصفعها يوماً ليتأكد من وجودها، والجدة تطلب منها أن تقرصها: «أعتقد أنني حيّة». الحب وحده يفرّقهما، فالراوية تتجنّب الاستدارة القصصية، وتنتقل أفقياً من شخصية الى أخرى، وتنتهي بجفاف عاطفي كما بدأت. تفضّل يارد التعبير المباشر الصادم، فنقرأ عن تقيؤ التهديدات و «السلام عليكم»، و «طلب يدي ومبيضي» في الصفحة 12 و «بيروت المشجوجة كفرج امرأة يفيض بالمني ذي الأحماض النووية المتعددة» في الصفحة 38. ثمة تكلّف لا تستطيع الترجمة شيئاً حياله مثل جملة في الصفحة 226: «نظر إليها تنام ولم يرَ على وركيها إلا روحها المسلوخة. فضّل أن يفكر أنه مارس الحب مع جرحها لكي يتبرّأ من الشعور الذي بدأ يجتاحه». تقول الراوية في الصفحة 16 إنها تخرج في المطار من باب التصريح لتصرّح عن نفسها، وإن «السعادة ليست انتظاراً. إنها تتشبّث باللثة». السؤال الكبير هو كيف كُشفت هويته الحقيقية بعدما طمسها تماماً. الكاتبة لا تحاول حتى أن تجيب.