خطّ أحد فناني الغرافيتي السوريين، على جدار في بلدته المنتفضة، شعاراً، بطريقته الفنية الخاصة، يدعو إلى التضامن مع المعتقل المجهول: «الحرية للمعتقل الذي لا نعرفه». اختصر هذا الفنان، بحدسه وحساسيته، عدداً كبيراً من الأسماء غير المعروفة، والحاضرة بغيابها الذي لا أحد يعرف مآله أو تفاصيله لكنه جاثم على قلوب السوريين. تصميم بسيط، إنما معبّر وحقيقي عن أشخاص اعتُقلوا بسبب مشاركتهم في الثورة السورية، وتنظيم التظاهرات السلمية، فغابوا خلف حُجب سجون النظام الاستبدادي، من دون أن يتمكن أحد من تسليط الضوء عليهم أو المطالبة بإطلاقهم... إذا كانوا بعد على قيد الحياة. ليس للمعتقل المجهول صفحة على «فايسبوك» تتضامن معه وتطالب بالإفراج عنه. هو ليس أسير سجنه فحسب، بل أسير مجهوليته أيضاً. حين يعتقل ناشط أو مفكر أو كاتب سياسي معروف، تمتلئ صفحات مواقع التواصل الاجتماعي بكتابات عنه، وصور، يهبّ الفضاء الافتراضي للتذكير بقضيته. أما المعتقل المجهول فيتحول رقماً، يضيفه المتحدثون باسم الثورة إلى عدّادهم حين يظهرون على شاشات التلفزة. وعلى رغم أن معتقلي الرأي والفكر في الثورة السورية، عددهم أقل بكثير من معتقلي التظاهرات ومنظميها ومشعلي شراراتها، فإن هؤلاء لا يحظون بالحيز الذي يحظى به أولئك في الإعلام المرئي أو التواصلي. وإذا كان ذلك يبدو مبرراً بسبب حضور أسماء عديدة، كانت معروفة وقيد التداول الإعلامي قبل الثورة، فإنه يبدو غير عادل بعد اندلاع الثورة وزج مئات الآلاف من الشباب في سجون النظام. المعتقلون المجهولون يمثلون الغالبية الآن، على الأرجح، وهم الوقود الحقيقي للانتفاضة السورية. هذه الحقيقة غير قابلة للخروج إلى العلن لأسباب موضوعية أبرزها قسوة النظام الذي يحترف إخفاء مواطنيه في العتمة، وانشغال مؤيدي الثورة بالأسماء «الكبيرة»، كما بالحدث اليومي المخضّب بالدم، فيما يُغفل الأشخاص الذين يصنعون الحدث من قرب. كتب أحد مناصري الثورة السورية على «فايسبوك»: «أنا متضامن مع المعتقل المجهول الذي يذوق ألوان العذاب، فيما أنت تقرأ هذه الكلمات، من أجل حريتي وكرامتي، وصيحاته الآن تشق السماء ولا نسمعها... أنا متضامن معه، هو الذي لن ألقاه في سورية الحرة، لأن جسده الطاهر لم يستطع تحمل مرارة السوط الذي ينهمر على ظهره كالمطر... لأن جسده الطاهر لم يستطع تحمل عذاب «بساط الريح» (واحدة من وسائل التعذيب في السجون السورية) فتكسرت فقرات ظهره... وخرجت روحه مع آخر ضربة كرباج على وجهه... أنا متضامن مع المعتقل المجهول الذي يحترق لأعيش، الذي يموت مئة مرة كي أحيا أنا في كرامة وحرية». هذه الكلمات تشكل جزءاً من المساحة الضئيلة التي أُفردت، على مواقع التواصل الاجتماعي، للحديث عن قضية المعتقلين المجهولين، ومن بينها صفحة «بدنا المعتقلين، لا نكلّ ولا نملّ، بدنا الكلّ»، والتي اعتمدت شعار «أنا المعتقل لا تنسوني». ثمة معتقلون لا تظهر لهم شرائط فيديو، يروي أحدهم كيف اعتقله «الشبيحة»، وحاول سينمائيون هواة إبراز قضيته في أفلام بثوها على «يوتيوب». في أحد هذه الأفلام، للمخرج محمد سلطان بعنوان «المعتقل»، يظهر شاب اعتقل بسبب تصويره التظاهرات المعارضة للنظام، فيما اثنان من المحققين يقومون بتعذيبه وإهانته. وقد تساهم في ذلك شرائط مسرّبة من داخل المعتقلات، ما زالت محيرة هوية مصوّريها وأصحاب «المصلحة» في تسريبها ولقاء أي مقابل. تبدو قضية المعتقلين المجهولين كالمفارقة. ففي حين تتكشف سورية، بلداً وشعباً وجغرافية، لأبنائها والعالم الخارجي على حد سواء، بعد عقود من الطمس والإلغاء فرضها النظام الأسد... تدخل آلاف الأسماء دائرة النسيان وهي المرتبطة بالحرية التي تُصنع أمام عيوننا. وعلى رغم قسوة الحدث السوري اليومي، ووطأته، تبقى هذه مسؤولية الثورة بناسها وإعلامها ومثقفيها.