أنعم الله تعالى علينا في هذه البلاد المباركة المملكة العربية السعوديّة بقيادةٍ رشيدةٍ قويةٍ أمينةٍ، تنظّم شؤوننا بواسطة أنظمةٍ واضحةٍ منضبطةٍ، تُنصف المواطن، وتضمن له أمنه في دينه ونفسه وسائر ضرورياته وحاجيّاته وكمالاته، فلا يخاف من هضمِ مجحِفٍ، ولا ظلمِ متعسّفٍ، ولا شك أن هذه الأنظمة نفعٌ خالصٌ لنا، فعلى كل منّا أن يقدّمها على ما يُعجبه بعاطفته وبهواه.. هيأ الله تعالى لعباده سبلَ المصالح المتعلقة بمعاشهم ومعادهم، ولم يكِلهم في ذلك إلى ما تُمليه عاطفةٌ عارمةٌ، أو ارتجالٌ غيرُ محسوب، ونَصَبَ لهم أدلةً نقليّةً جاءتهم على لسانِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وعقليّةً مركوزةً في الفِطَرِ لا يُصادمُ الصحيحُ منها صريحَ النّقل، وعرفيّةً قرر الشّرعُ الاسترشاد بها في مجالاتها، وهذه الأدلّة ترشدهم إلى فعل ما ينبغي فعله، وترك ما ينبغي تجنُّبه، بل أمرَهم بالتدبُّر والاستفادة من نعمةِ العقل التي متَّعهم بها، ولما كانت مداركهم متفاوتةً، وإقبالهم على مصادر العلم ليس على مستوى واحدٍ ألزم عامةَ الناسِ الرجوعَ إلى أهل المعارف، فقال تعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)، فالعاقل من التمسَ مصالحَه على هذا النهج بحيث يُحصّل المنافع، ويتجنّب المضارّ بإذن الله تعالى، والغافل من سلك غير هذه الطريق وتحرّى ما يعجبه من غير التفاتٍ إلى ميزان المصالح والمفاسد، ومن غير استعانةٍ بمن يملك آلة فهم هذا الميزان، ولي مع ترجيح ما ينفع على ما يعجب وقفات: الأولى: ليس المقصود ب(ما يُعجبك) في العنوان ما أحبه الإنسانُ بعد معرفة ما فيه من المصلحة، بل ما يهواه الإنسانُ بمجرد عاطفة الهوى البحتة، والإعجاب بمجرد الهوى لا يدخل في العباداتِ الشَّرعيّة؛ لأن مبناها على التوقيف، وأن يعلم العبدُ أنَّ عملاً معيّناً يُرضي ربّه ويأمره به، فيفعله امتثالاً لذلك؛ ولهذا يلتزم بما تضمّنه من تحديدٍ بالوقت وبالمقادير، فلا يُقدِّمه ولا يُؤخره عن وقته، ولا يزيد على المقدار المشروع، ولو تكلَّف من ذلك ما لم يُؤذن فيه لكان ساعياً فيما يُعجبه بالعاطفة لا فيما ينفعه، وقد خطر مثل هذا الهاجس لبعض الناس في عهد النبيِّ صلى الله عليه وسلم فعالجه أتمَّ معالجة، فعَنْ أَنَسٍ رضي الله تعالى عنه، أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلُوا أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ عَمَلِهِ فِي السِّرِّ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا آكُلُ اللَّحْمَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا أَنَامُ عَلَى فِرَاشٍ، فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ. فَقَالَ: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ قَالُوا كَذَا وَكَذَا؟ لَكِنِّي أُصَلِّي وَأَنَامُ، وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي»، متفق عليه، ولما ظهرت أفكار المبتدعة وأهل الأهواء كان من عادتهم النظر إلى قضيّةٍ معينةٍ والتّعامل معها كما يُعجبهم، لا كما ينفع العبادَ والبلادَ، ولم يزل ذلك دأب من يتأثر بفكرهم إلى الآن؛ فترى طوائفهم -على تباينها واختلافها- متفقة في أنها تُغرى وتُعجبُ بأمرٍ مّا فتأخذ منه مسلك شبهةٍ، وتجعله مبرّراً للبغي على مخالفيهم، أو على أئمة المسلمين وعامّتهم، ولا تلتفت إلى المحكمات التي تجتمع بها الكلمة، فيتمخض سعيُها في كونه مجرد إعجابٍ بالرأي. الثانية: النظر في المصالح العامّة منوطٌ جميعه بولاة الأمر، وليست كلمة غيرهم فيه نافذة؛ منعاً لسيادةِ العاطفة وسدّاً لباب الفوضى، وقد أنعم الله تعالى علينا في هذه البلاد المباركة المملكة العربية السعوديّة بقيادةٍ رشيدةٍ قويةٍ أمينةٍ، تنظّم شؤوننا بواسطة أنظمةٍ واضحةٍ منضبطةٍ، تُنصف المواطن، وتضمن له أمنه في دينه ونفسه وسائر ضرورياته وحاجيّاته وكمالاته، فلا يخاف من هضمِ مجحِفٍ، ولا ظلمِ متعسّفٍ، ولا شك أن هذه الأنظمة نفعٌ خالصٌ لنا، فعلى كل منّا أن يقدّمها على ما يُعجبه بعاطفته وبهواه، وإذا أحسَّ بوقوع تعارضٍ بين النظام وبين ما يُعجبه أيقن أن إعجابه قاده إلى ما لا منفعة فيه، وحين ذلك يلزمه أن يتخلّى عن هذا الإعجاب، ويتشبث بالنظام، والمضارُّ كالذئابِ لا تفترسُ إلا من ابتعد عن الجماعة، فمن فارقها بالكليّة وقع فريسة الهوى والضلال والزَّيغ، ومن فارقها في جزئيّةٍ بخرق النظام في قضيّةٍ معينةٍ وقع فريسة المشقة في خصوص هذه القضيَّة. الثالثة: للإنسانِ مصالحه الخاصّة التي يحتاج في تسييرها إلى الاستعانة بخبراتِ الآخرين، ولا يَعدمُ ممن حوله ناصحاً يُبادره بالمشورة، من الوالدين والأقربين والزملاء والأصدقاء، وقد يحتاج إلى أن يستشير ذا خبرةٍ معيّنةٍ فيما له فيه خبرة، وفي كلِّ هذه الأحوال قد يسمع ما يُخالف هواه ولا يعجبه، لكنّه ينفعه، فعليه أن يتغلَّب على الهوى، وأن يتبع قول الناصح لا ما تُمليه العاطفة، وأيضاً إذا أراد أن يُشاور أحداً فلا ينبغي أن يتوجه إلى متساهلٍ أو غاشٍّ يُسمعه ما يُعجبه، بغضِّ النظر عن المصلحة، فهذا بمثابة من يتفادى الطبيب المتخصص خوفاً من مواجهة حقيقة مرضه، ويكتفي بوصفات المثرثرين في المجالس، ولا يخفى أن هذا مهلكة.