أعاد إعلان تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) مع بداية شهر رمضان المبارك، الخلافة الإسلامية وتنصيب أبو بكر البغدادي خليفة للدولة الإسلامية العتيدة، أعاد هذا الإعلان حنين البحث لدى الجماعات الإسلامية ومنظريها ومؤيديها عن مدى انطباق ما تم إعلانه من «واجب شرعي» بحسب بيان إعلان الخلافة والدولة، وبين ما تم في الواقع. لا يمكن إنكار رمزية مثل هذا الإعلان وتوقيته في وقت يتصاعد فيه نفوذ الدولة الإسلامية في العراق والشام في الشرق الأوسط وباتت تستقطب مئات وربما آلاف المجاهدين الغيورين على «بيضة الدين» وواجباته الشرعية، فالعديد من المسلمين المقيمين في دول كتايلند وأندونيسيا وماليزيا وحتى مجاهل أفريقيا، سارعوا إلى إعلان الولاء والمبايعة «الالكترونية» لخليفة المسلمين الجديد المتمتع بكل صفات الإمامة والخلافة الراشدة بحسب النصوص التي استند إليها منظرو الدولة الإسلامية! يستند الجذر اللغوي لمصطلح الخلافة الاسلامية إلى كلمة مشتقة من الفعل «خَلَفَ» اي اتبع في الحكم. ومصطلح الاستخلاف في المفهوم الاسلامي هو سبب من الأسباب الرئيسية التي خلق الله تعالى بني البشر على الارض من أجلها، كي يعبدوه ويطبقوا احكامه التي ارسلها إلى الانبياء والرسل على مر الزمن. في القرآن الكريم، الذي يعتبر دستور الجماعات الإسلامية والتي لا تؤمن بشيء خارج إطار تعاليمه، لا يوجد استعمال مباشر لمصطلح الخلافة بمدلوله السياسي، بل مجرد تلميح إلى معانٍ حضارية وإنسانية تقوم على الالتزام بالمنهج القويم الذي بعثه الله مع رسله وأنبيائه، فيقول الله تعالى: «وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴿30﴾- سورة البقرة، ويقول أيضاً: «يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ ﴿26﴾- سورة ص. ويتضح من مفهوم الآية البعد القضائي لمعنى الاستخلاف وهو الالتزام بمنهاج الله عز وجل. ويقول الله تعالى ايضاً: «وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴿55﴾- سورة النور، وهو معنى يفيد بالتمكين الدنيوي وارتفاع شأن الدين وأنصاره من دون وجود أي مدلول سياسي. في السنة النبوية التي يتبلور معنى سياسي للمطالبين بإعادة إحياء نظام الخلافة الإسلامية الذي ألغاه مصطفى كمال أتاتورك عام 1924، يتضح وجود ملابسات وإشكالات عدة، فأوضح نص يستند إليه إعلان تنظيم «داعش» والجماعات الإسلامية الأخرى هو ما رواه الإمام أحمد في مسنده: «تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها، ثم تكون ملكاً عاضاً، فيكون ما شاء الله أن يكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً جبرية، فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة ثم سكت». هذا النص الذي يعبر عن رواية تاريخية لا تكاد تسلم من التأويل الذي هو سلاح أي فريق سياسي، يخوض في معانٍ اختلف العلماء على تبيينها وتوضيح ملامح كل فترة زمنية، وبخاصة في ما يتعلق «بالملك العاض» و «الملك الجبري»، كما أن السكوت في معرض الحاجة إلى بيان، بحسب القواعد الأصولية (من علم أصول الفقه) بيان في الأصل، ما لم تترتب على هذا السكوت دلالات أخرى لم تتضح من رواة الحديث نفسه وجعلت المحدثين أنفسهم يخوضون في تأويل معناه (السكوت). بقية الأحاديث تتكلم عن قيام «خلافة» ثم اتباعها بالملك العضوض، او كون الأئمة من قريش، او أن عددهم 12 شخصاً، إلى غير ذلك من الأمور الشكلية التي لا توضح ماهية حكم الخلافة ومضمونه، ما جعل رواد الفقه السياسي الإسلامي يجتهدون في ملئه وتوضيحه، يقول أبو الحسن الماوردي: «الإمامة: موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا»، وسمّيت خلافة لأن الذي يتولاها ويكون الحاكم الأعظم للمسلمين ويخلف النبيَّ في إدارة شؤونهم، وتسمّى الإمامة لأن الخليفة كان يسمى إماماً، ولأن طاعته واجبة ولأن الناس كانوا يسيرون وراءه كما يصلون وراء من يؤمهم في الصلاة، إلا أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) نفسه لم ينص على «الخليفة» من بعده بحسب معتقدات أهل السنّة، بخلاف ما تقول الطائفة الإثنا عشرية. إن استخلاف الإنسان للقيام بواجبه في عمارة الأرض أمر مسلم ولا خلاف فيه، لكن الإصرار على هياكل سياسية لم تكن موجودة إلا من خلال الاسم في كثير من مراحل التاريخ الإسلامي، إذا استثنينا مرحلة الخلافة الراشدة لرمزيتها، والتأكيد على وجوب تنصيب «خليفة» ومبايعته يشير إلى عمق أزمة الفقه السياسي الإسلامي في شقيه السني والشيعي، فالأول لا يزال مهجوساً بحلم استعادة التاريخ والماضوية الفكرية والسياسية، والعجز عن امتلاك أدوات العصر وعصرنة مفاهيمه التي قد لا يجد (إن حاول) أنها تختلف عن معاني العدل والعدالة والتسامح وإشاعة النظام، فكلما أطلق أحدهم دعوة إلى إعلان الخلافة أو تنصيب خليفة انقسم الإسلاميون بين «عاطفي» مؤيد للفكرة والخطوة بصرف النظر عن واقعيتها ومدى انطباقها، وبين معارض للخطوة وتوقيتها ومعاييرها، وهو ما جاء على لسان جميع الفصائل الإسلامية المقاتلة في سورية والعراق وفي مقدمها حزب التحرير الإسلامي الذي يقوم مشروعه على فكرة إحياء نظام الخلافة ذاته! أما الفقه السياسي الشيعي، فقد كفى أتباعه شر التفكير بابتداع فكرة ولاية الفقيه واستئناف الوصاية على عقول وخيارات الشعوب من خلال أصحاب العمائم، مع تزيين غربي معاصر يكتفي بمجالس شكلية تأتمر بأوامر الولي الفقيه «المعصوم»، وهو ما ينطبق على الفرق الشيعية التي تبنت هذا الموقف (ولاية الفقيه)، فيما ظل الرافضون من الشيعة لهذه الفكرة في انتظار مجيء المهدي وقيامه بواجب الاستخلاف ونصرة الدين.