ماذا يفعل المرء إن كان يشعر في حياته بالملل بشكل عام، وبأن سنوات الوظيفة الطويلة التي عاشها تبدو وكأنها لم تسفر عن أي نتيجة؟ ماذا يفعل حين يخبره الطبيب والحال هكذا، أنه لم يبق له للعيش سوى ثلاثة أشهر، إذ اكتشف إصابته بداء عضال؟ هل يحزن؟ هل يفرح؟ هل يشعر باللامبالاة... أو تراه يجلس ساهماً يتذكر ما فعله في حياته نادماً على ما لم يفعله؟ في العام 1952، وكان بعدُ في بدايات مجده السينمائي، طرح المخرج الياباني أكيرا كوروساوا هذه الأسئلة على نفسه... والغريب أنه طرحها في وقت كانت شهرته العالمية بدأت تترسخ، بعد الفوز الكبير الذي حققه فيلمه «راشومون» في مهرجان البندقية، وفي وقت كان أنجز فيلم «الأبله» في اقتباس عن دوستويفسكي، ويستعد لتحقيق واحد من أضخم أفلامه وأهمها: «الساموراي السبعة». كل هذه الأفلام التي ذكرنا، لم يكن فيها من الحميمية شيء، ولم يكن أيٌّ منها يحمل أسئلة خاصة كان من شأن كوروساوا أن يطرحها على نفسه... فما الذي جعله يحقق فيلماً عابقاً بكل هذا الأنواع من الأسئلة في خضم هذا كله؟ ما الذي جعله يحقق فيلماً عن «الموت» معطياً إياه -ويا للتناقض- عنوان «أن تعيش»؟! حقق أكيرا كوروساوا فيلم «أن تعيش» (ايكيرو) في العام 1952، ليُعتبر بسرعة، وخصوصاً بعدما فاز بجائزة الدب الفضي في مهرجان برلين لذلك العام، واحداً من أجمل أفلامه حتى ذلك الحين، وواحداً -بالنسبة إلى كثر من النقاد- من الأفلام الأكثر انسانية في تاريخ الفن السابع... فيما نظر اليه آخرون بأنه فيلم «وجودي» بامتياز، من ناحية كونه أتى في زمن كانت فيه أفكار الوجودية منتشرة، والعالم يبحث عن ضوء في آخر النفق الذي أوصلته اليه الحروب، ووجد الإنسان نفسَه مرميّاً وحيداً أمام مسؤولياته. والغريب أن فيلم «أن تعيش» يحمل كل هذه المعاني على رغم بساطة موضوعه وحميمية أجوائه، فموضوعه لا يتعدى حكاية موظف في الخمسين من عمره تقريباً، أجرى لنفسه فحوصاً في مستوصف عادي ذات يوم، ليدرك من بعدها أن اصابته قاتلة، وأنه سيموت عما قريب، لتأتي أجزاء الفيلم التالية مصوِّرة أجواء تلك الشهور التي عاشها الرجل، كنجي واتانابي، وهو يودع الحياة، حيناً بمفرده وحيناً مع أفراد راحوا يسايرونه، حتى كانت نهايته، التي سينتهي الفيلم دقائق من بعدها وسط تأبينه من زملائه وأهله، ووسط الإيحاء بأن الرجل قبل موته تمكّن من أن ينقل الى آخرين درساً في الإنسانية. وفي هذا المعنى، لن يفوت المتفرج أن يلاحظ أن ثمة نزعة تفاؤل قوية تطغى على الفيلم، ليس بالنسبة الى مصير بطله، بل بالنسبة الى النوع الإنساني نفسه. غير ان هذا كله لم يكن واضحاً عند أول الفيلم، حين يخرج واتانابي من المستوصف وقد علم بالخبر المريع... فهو هنا يشعر بهزة رهيبة، ويبدأ محاولة التمسك بأي خشبة خلاص تخفّف عنه قسوة ما يحدث له، من دون أن تخامره أي أوهام بإمكان الإفلات من المصير. لكن الصدمة الثانية تأتيه في ذلك المساء نفسه، حين يقصد ابنه المتزوج آملاً في أن يجد لديه عزاء وحناناً... غير أن الابن يبدي من اللامبالاة ما يجعل خبر قرب الموت بالنسبة الى واتانابي يبدو رحيماً. وهنا يحاول أن يسلك طريقاً آخر، يحاول أن يعيش عبر إنفاق ما لديه من مدخرات، ذارعاً طوكيو طولاً وعرضاً. يعيش تلك الجولات بمرافقة كاتب شاب يتناقش معه طوال الوقت حول خواء حياته الوظيفية: ثلاثون عاماً من الرتابة ومن الأيام التي يشبه بعضها بعضاً، ثلاثون عاماً من البلادة ومن رصد ما يدور في المجتمع من حوله من دون أن يفهم شيئاً، ثلاثون عاماً من المفاجآت واللاأحداث على رغم الحروب والاضطرابات... كان هذا كله يحدث فيما واتانابي يعيش فراغاً مرعباً، خارج كل شيء، مثل أي موظف روتيني. وإزاء اكتشافه واقع عيشه هذا، تتفتح عينا واتانابي تحت تأثير الكاتب، ويقرر بالتدريج أن الأوان قد حان له لكي «يعيش»... يعيش حقاً، ولو لأسابيع قليلة. وهكذا... يكتشف معنى الصداقة في حياة الانسان، ثم معنى المسؤولية، فمعنى الحرية والالتزام بالتدريج. الصداقة سيمارسها الآن مع موظفة شابة في المكتب كانت مساعدة له، وهذه تفتح عينيه أكثر، وتخبره كيف أن كل الزملاء في المكتب كانوا يدعونه من وراء ظهره «المومياء»... ثم تخبره أنها -مهما يكن من الأمر- لا تستطيع فعل شيء من أجله. وهنا، وعلى ضوء هذا كله، لا يعود أمام واتانابي إلا ان يتخذ القرار الكبير الوحيد في حياته، والذي سيعطي معنى لهذه الحياة، سيعود الى المكتب ويمضي ما بقي له من وقت مناضلاً من أجل فرض الاستجابة الى طلب تقدمت به نساء الحي وأُهمل بيروقراطياً، ويتعلق بتخصيص قطعة من أرض مهملة لتحوَّل ملعباً للأطفال. أخيراً اذاً، جعل واتانابي لحياته هدفاً... وهو سعى وراء هدفه هذا حتى تمكَّن من تحقيقه... وإذ تحقق المشروع، لم يعد أمام واتانابي إلا ان يدرك أنه أخيراً عاش حقاً، وصار في امكانه أن يموت مطمئن البال. وهو يموت بالفعل جالساً فوق أرجوحة للأطفال، ساكتاً متأملاً وقد أدرك أن الأسابيع الأخيرة مكَّنت حياته من ألاّ تكون حياة غير مجدية. والحال أننا لن نرى هذا كله في النهاية بمثل هذه التفاصيل، كل ما في الأمر أننا سنرى علاماته وإشاراته، ونجد أن في إمكاننا أن نفسره ونعطيه معانيه. وواضح أن هذا كان مقصوداً بحذافيره من جانب كوروساوا، الذي شاء من خلال هذه النظرة المواربة الى معنى «العيش» الذي جعله واتانابي لنفسه، أن يجعل من كل متفرج متورطاً في الفيلم... وهذا التورّط يأتي من خلال لعبة مزدوجة: إبعاد المتفرج عن التماهي مع حتمية موت واتانابي، جاعلاً من هذا الموت شيئاً شخصياً من ناحية، ومن ناحية ثانية خَلْقُ تماهٍ تام بين المتفرج وواتانابي بالنسبة الى السمات التي تتحرك لدى هذا الأخير، الذي يصبح في نظر المتفرج شخصية عامة نموذجية، ببعده الملائكي من ناحية والوجودي والشخصاني والإنساني من نواح أخرى... فهل في هذا التفسير شيء من الالتباس؟ بالتأكيد، ولكن ألا يمكننا أن نرى أن العالم كله إنما هو مصنوع من مثل هذا الالتباس... الخلاق؟ وهل ثمة ما هو أكثر التباساً وقدرة على الخلق في الوقت نفسه من تصوير موت تولد الحياة من رحمه؟ لكن هذا ليس كل شيء. فإذا كان كوروساوا قد قدم في «أن تعيش» فيلماً عن انسان وحيد يموت وقد قرر أن يعطي لحياته معنى إيجابياً يخدم الآخرين... بل يخدمه هو نفسه أيضاً، فإن هذا المخرج، الذي كانت القضية الاجتماعية بالغة الأهمية بالنسبة اليه في ذلك الحين، عرف في طريقه كيف يندد بالتقليدية الاجتماعية والبيروقراطية التي كانت تلقي بثقلها الكئيب على السيكولوجيا الجماعية في اليابان. ومن هنا، اعتُبر «أن تعيش» في حينه درساً كبيراً في السينما وفي إمكانات فن السينما. حين حقق كوروساوا (1910-1998) فيلم «أن تعيش» كان في الثانية والأربعين من عمره، وكان اسمه قد بات معروفاً في الحلقات السينمائية في العالم أجمع، لكنه لم يكن قد أصبح بعد «إمبراطور» السينما اليابانية. هذا اللقب صار له لاحقاً مع تزايد وتيرة نجاحاته وتحقيقه أفلامه الكبيرة، التي أوصلته الى أن يعتبر في العام 1982 واحداً من أكبر عشرة مخرجين سينمائيين في العالم، وذلك بعد عقد من محاولة انتحار فاشلة قام بها. ومن أبرز أفلام كوروساوا: «قلعة العنكبوت» و «بين السماء والأرض» و «ذو اللحية الحمراء» و «درسو اوزالا» و «كاغيموشا» و «ران» و «أحلام»... [email protected]