متوالية الإعلانات المتلفزة والمعروضة عبر حوامل وملصقات وفي الصحف تستهدف بناء صورة تزعم مطابقة شكل هوية شكل حبة الرز مع هوية محتواها. من خلال إبراز حال من التناظر السيمتري ما بين الرز والأصالة والنعومة واللذة والأرستقراطية إلى آخر منظومة الفرادة والتميّز. ولا يُتوقع من تلك الصورة الإعلانية أن تصرّح بقيم الحقيقة لأنها تقوم على انتهاك أبسط القواعد الموضوعية الصحية والرياضية والنفسية والجمالية. فهي مُرسلات تتفادى فكرة التطرُّق إلى مزايا المنتج ووظيفته، فيما تنحاز لاستثارة خزان الصور النمطية المودعة في دهاليز اللاشعور. بهذا المعنى تلعب الإعلانات على تحريك خزين المقولات الاجتماعية التمجيدية لعادات التهام الرز «مقابل لعيوش، ولا مقابل لجيوش»، إذ يتم إرسال وابل من الصور المُبَلْغَنة، المحمولة على رداء رهيف، يحيل إلى عوالم الحلم، إذ لا تحتوى إعلانات الرز على جسد رياضي كالذي يُستظهر في منتجات شراب القوة مثلاً. ولا يمكن تضمينها بطبيب ناصح كما هي الحال بالنسبة لمعاجين الأسنان. كما يستحيل توظيف امرأة رشيقة أو ناعمة كتلك التي تحتل إعلانات العطور والماكياج والملابس. وفي المحصلة النهائية لم تسجل إعلانات الرز توظيف القيمة الرمزية لأي من الشخصيات المشهورة كنجوم الفنون والرياضة. بموجب تلك المواربة ينبني خطاب إعلانات الرز. أي على التمويه، والحذف، والإرجاء، والتعتيم، في مقابل موجة من التكرارات اللفظية المقفاة، وفق نبرة مدروسة، تقوم على ترقيق الصوت أو ترخيمه، بناء على ما يستوجبه الموقف، على اعتبار أن التكرار آلية حُلمية، بحسب التحليل الفرويدي، تموضع الفرد في مدار استيهامي. كما يُلاحظ ذلك المنحى التأثيري - مثلاً - في إعلان (البسمتى الأبيض) عند ترديد عبارة «منا وفينا» المحقونة بحميمية الإحساس بالأهل، إذ تتأسس على مألوفات التراسل المتبادل بين مرسل الرسالة ومستقبلها، أو كما ترد في إعلان (بنجابي المهيدب - كلاسيك)، إذ تستطيل حبة الرز البيضاء، بكل موحياتها الأنثوية على إيقاع صوت الرجل المحفوف بالتنغيم «الطووووووووول عزّ.. حبة الأرز الأطول». فيما يبدو تعضيداً لصيغ السرد والحكي في هذا الإعلان بإثارة الحواس. هكذا يُمسرح الإعلان التجاري المواضيع المتعلقة بالرز. ليضفي على علاقة الفرد المعاشية، المتعلقة بواقعه طابع البساطة حد السطحية. ومن خلال إعادة إنتاج منظومة مألوفة من صور الحياة اليومية، التي بموجبها يتم بناء شعار الحقيقة، والتلويح بها في الفضاء الاجتماعي. من خلال حوارات تقوم على الممازجة بين النسق اللفظي والبصري. وهو فن تسويقي باتت تتقنه شركات الإعلان، وخبراء الإعلان التجاري، ومحررو النصوص الإعلانية بعد بحث لمنظومة القيم السوسيولوجية المتحكّمة في الفرد ودراسات تسويقية. فالهدف هو مستهلك ثقافي، ناتج في الأساس عن بلورة التصنيف أو النموذج الثقافي العام. يتأكد وعي الوسيط الإعلاني بالحاجات والنوازع ولغة التواصل الاجتماعي والفنون الاتصالية، وقدرته للعب عليها عند تأمل اللافتة الإعلانية الضخمة لرز «أبوكاس» المصمّمة بتقنية النماذج المجسمات، ومحاولة قراءة حقل الصورة ومكوناتها السردية، إذ تبدو فيها آنية ضخمة مقلوبة. معلّقة على مِغرفة كبيرة تداعب حبات الرز الأبيض المتهيّلة بنعومة. مسنودة بعبارة مدوّخة «طعم يقلب العقل» في إشارة إلى حال الانتشاء المتأتية من تناول هذا النوع من الرز. وفي مقابل هذا الإعلان الفائض بالدلالات، تنتصب لوحة إعلانية مضادة لرز (الوليمة) مكونة أيضاً من لقطة فوتوغرافية تتضمن نفساً سردياً مشابهاً للأولى ومفارقاً لها في آن. فالآنية ذاتها مستوية على الأرض. فيما ينغرس جزء من المِغرفة في تل من الرز الأحمر، تحفّها عبارة مغمّسة بالاشتهاء «رز يعدل العقل». هذه الإرساليات اللسانية التي تحيط بمنظومة صور الرز المتنوعة هي بمثابة السند اللفظي لفعل بصري هو قوة إقناعية بذاته، قادر على تسريب حمولاته من خلال الصياغة والعرض. فالإعلان بهذه الكيفية التي يؤدي فيها مهمة الوسيط، إنما يتخفف من دوره كخبرٍ ليتحول إلى نصٍ جمالي مكتفٍ بذاته، بمعنى أنه كقوة إقناعية إبلاغية ناعمة تم استدخالها في البنية الاجتماعية في صورة من صور الخدمات، المنذورة لفئة أو لجمهور مستهدف. وبالتالي فإن الإعلان يعيد نفس فكرة التبسيط، إذ يوهم بامتلاكه الجواب لكل الأسئلة. نتيجة استثماره لوظيفية التعبير الجمالي، التي تقوم على المشابهة. وكذلك الوظيفة القيمية، التي تناغى المواقف المسكوكة والمنغرسة بعمق في الوجدان. وأيضاً الوظيفة السيكولوجية، من خلال اللعب على الحواس والتلذّذ، أي تحريك النوازع الغريزية، باعتماد آليات توهم المستهلك بأن الرز ومتعلقاته أشياء قريبة منه، تبادله نظرات مألوفة. إن المظهر الإبداعي لتلك المنظومة من الإعلانات لا يتجلى ويُحدث أثره الاستهلاكي لمجرد استعراضه لمنتج أثير على النفس، بل نتيجة لاعتماد استراتيجية إبلاغية قائمة على الترغيب والإقناع. فالإصرار على استخدام الأبيض والأسود دائماً في الشريط البصري لإعلان (بنجابي المهيدب) لم يتم بشكل اعتباطي، بقدر ما أُريد للصورة أن تعكس محتوى الحمولة القيمية الضاربة في العمق الاجتماعي، والدّالة على التلازم بين تلك الماركة من الرز وإنسان هذه الأرض، إذ لا يبدو الأمر ملفقاً عند فحص جينات الصورة، ولا بقسر الحواس على الاستجابة إلى ما لا يمكن تقبّله، بقدر ما تتعزّز المجازات اللفظية بما توحي به با نوراما العرض البصري، من خلال التلميح والبلاغة الشكلية، التي منها ينبجس المعنى. * ناقد سعودي.