لم يكتب سميح القاسم (1939 -2014) القصيدة الخافتة أو المائلة، كما فعل توأمه ونده في الشعر الفلسطيني محمود درويش بعدما زار الموت وعاد منه بال «جدارية». لم يكتب سميح بلهاث خافت ولغة تراوغ وتغامر في الموت كدرويش، رغم أن الموت طرق بابه بشبحه الأكثر توحشاً (السرطان )، منذ أكثر من عامين، بل قام وفتح له الباب، وأجلسه إلى جانبه وقدم له فنجان قهوة، وطلب أن يقرأ بخته ( طالعه ) في الفنجان. في ديوان «كولاج 3» (2012)، وهو من أواخر إصدارات الشاعر، روح دعابة سوداء قريبة من روح إميل حبيبي في «المتشائل»، الذي قال «ليس لدينا سوى ثقب صغير وعلينا أن نخرج منه». ولا أحد يعرف هذه الروح سوى الفلسطيني الذي في ضحكه حشرجة المعزولين في نفق محمّى، أو داخل شاحنة تائهة في صحراء في رمضاء وعليه أن يضحك لأن صراخه مهدور. وحين يلتوي سميح لا تعرف هل يلتوي من شدة الألم أم من فرط السخرية. حين كنا في القاهرة، في ملتقى الإبداع العربي 2010، نظر إلي سميح بغرته الجميلة، وقال لي: أنا سميح الزرقاوي ( نسبة لولادته في الزرقاء من الأردن )، أحد أجدادي من القرامطة، وابني اسمه «وطن محمد». وأردف: وهو ما يغيظ الحواجز الإسرائيلية. قلت له: أظن أنك تعود بأرومتك إلى عمرو بن كلثوم، صاحب «ألا هبّي ...»، ففيك مثله نخوة عصبية، وتحد، وشعرك يتقدم كفيلق أو دبابة، وذكرت له قصيدته «تقدموا تقدموا»... وذكرت أن المؤسس الأول لشعر المقاومة، هو جدنا عمرو بن كلثوم، القائل: « ألا يجهلن أحد علينا...» قال: نعم، «ألا لا يجهلن»... وضحكنا معاً. تمر الأيام، وتطرد صورة صورة ، وفي الأيام الأخيرة، وقد تجاوز العنف الإسرائيلي على غزة، حدود المخيلة، برز وجه سميح القاسم، من خلال الشاشة، وهو يقول: أمشي... وأمشي، إلى آخر الأغنية. لم أنظر إلى وجه سميح المهشم بالسرطان، بل أغمضت عيني على صورته الطفولية التي أحبها: فتى جميل نقي خطيب أليف ساخر ساحر. وحين كان يردد «وأنا أمشي وأنا أمشي» كنت أردد قوله في ديوان «الموت الكبير»: «أنا الغضب \ حديقتي تمتد من سري \ إلى أبعد ما في الأرض من أسرار \ حديقتي تنهار \ لذا فإنني \ سأجدل الإعصار». صوت خاص لم يكتب سميح القاسم القصيدة الخرساء، وهي أصعب أنواع الكلام، ولا القصيدة البيضاء، بل القصيدة المجروحة، و دمها يرشح من أطراف الحروف، وصوته يصعب أن نخطئه بعد مسيرته الطويلة، حتى ولو اشتبك أحياناً مع أصوات أخرى من شعراء المقاومة الفلسطينية، (معين بسيسو، محمود درويش، توفيق زياد، حنا أبو حنا، احمد دحبور...)، فثمة شحنة من الغضب مزروعة كلغم في أصل كل قصيدة، من ديوان «دمي على كفي» (1967) و«دخان البراكين» (1968)، حتى مجموعته الأخيرة «كولاج 3» (2012)، ولعل الشاعر قد رش شيئاً من النار على هشيم الكلمات المهزومة للشعر العربي، وعلى المناحات الطويلة، من ديوان «نهر الرماد» لخليل حاوي، إلى قصيدة «شعراء الأرض المحتلة» لنزار قباني، أي من خمسينات القرن الفائت حتى سبعيناته. إن الشعر النقدي المبدع لهؤلاء الشعراء، ومنهم مظفر النواب، وأمل دنقل، كان يراوح بين الشتيمة المعبرة وينبش قبر الأمة العربية (البائدة ) والدعوة للانتحار احتجاجاً. ولعل قول خليل حاوي «ماتت البلوى ومتنا من سنين» يتردد مع قول نزار «يطأ الإرهاب جماجمنا، ونقبل أقدام الإرهاب»، مع قول مظفر «يا أولاد ال ... هل تسكت مغتصبة؟» ... ويعود خليل حاوي فيختصر المشهد برمته بقوله «عمّق الحفرة يا حفار...». هذا الشعر المعبّر عن الهشاشة التاريخية للأمة. كان في جانب منه لسان حالها. وكانت قوتها الكامنة والمستورة في الوجه الآخر المعتم للقمر، يسترقها شعراء آخرون مبدعون وإستراتيجيون مثل بدر شاكر السياب (مثالاً)، وجاء شعراء الأرض المحتلة ليتوسطوا المشهد. رش سميح القاسم على الهشاشة التاريخية العربية، شيئاً من النار، وحرك لسانها بخيط من الغضب، ثم حاول أن يوظف الموت على باب القصيدة والقصيدة على باب الغضب، والغضب على باب الانتقام، والانتقام على باب المظلومية. واليوم، بعد أن اكتملت حياة سميح القاسم بالموت، فإنه بهذا الموت الجسدي، قد فتح كتابه (شعره) كتجربة من تجارب الشعر العربي الحديث والمعاصر تستدعي القراءة. وقراءة هذا الشعر الغزير والمتنوع أسلوبياً ولغوياً، تضعنا أمام تفاصيل وحوادث وأماكن معروفة، تقطعها بروق جارحة، على امتداد القصائد، فيظهر على أنه شاعر ينابيع للميثولوجيا أو للثيولوجيا أو للتواريخ المتنوعة التي يستلهمها، فهو على هذا الأساس شاعر ذو اختلاط عجيب، غنائي وسردي حكائي، واقعي، بالملموس والمحسوس وميثولوجي، يستعمل الأوزان الخليلية المغلقة أو المطلقة، كما يستعمل النثر السائر، والكلمات الأجنبية، ومقاطع من الكتب المقدسة من التلمود إلى العهد الجديد إلى القراّن. ويؤسس بعضاً من سربياته (أي قصائده الطويلة التي تتقدم كأسراب) على أساطير متنوعة، تارة يأخذها من الميثولوجيا الإغريقية، أو من أوروبا في القرون الوسطى، كما هي الحال في سربية «كلمة الفقيد في مهرجان تأبينه (مؤسسة الأسوار، عكا 2000 ) أو يأخذها من الأساطير السورية والكنعانية. وهو يصهر كل هذه العناصر المتباينة في بوتقة القصيدة، ويستنبت من اليوميات القريبة والسياسات المعروفة الراهنة ما يشبه أسطورة الواقع الفلسطيني بكل تفاصيله الدامية والثائرة، يقدمها مشبوكة مع ما يستدعيه هو إلى ساحتها من أساطير وميثولوجيات وأديان. و هو في الكثير من أناشيده الدامية، شاعر ذو روح لوركية (نسبة إلى غارسيا لوركا)، نشأت قصائده واندلعت في بؤرة التوتر والغليان التاريخيين على أرض فلسطين، وشرارتها ذات برق صوري ولغوي مباشر أحياناً، ومجازي رمزي في أحيان أخرى، وهي ذات خطف وإلحاح في الخطف، من خلال ضغط الكلمات الكثيرة ودفعها في مجرى ضيق. يقول: «إلى أين هذا الذهاب الإياب الحضور الغياب السراب الخراب العذاب؟» ويقول: تعبت علمت جهلت سألت أنا هملت أم سميح؟» (من ديوان كلمة الفقيد...). التاريخ الفلسطيني شعراً يكاد سميح القاسم، من شدة غزارته في الكتابة، يحول تفاصيل حياته وكلماته وأفكاره، إلى منظومات شعرية، يسرد فيها ما يرى، أو يقول ما يعيش. ولعل الكثير من قصائده، يحمل سمة اليوميات الشعرية، يقول: «قري يا عيني مارست التاريخ \ قري يا عيني أدمنت التاريخ» ... حتى لكأنه يخشى من محو الذاكرة الفلسطينية فيذكرها في أدق يومياتها وتفاصيلها. يقول:»القواد المتكئون على الأسطول السادس والسفراء الضباط التجار الوكلاء الخبراء \ كانوا ثقباً تتسلل منه الجرذان الأميركية \ والسلع الأميركية \ والنفاثات الأميركية \ وصواريخ الأطلنطي المعروفة والسرية» ( ديوان الموت والياسمين ). و هو في السرد حكائي، نثري، وغالباً ما يلجأ إلى ترويدات شعبية من الفولوكلور الفلسطيني... ما يقربه من لوركا في «الأغاني العميقة». أخيراً نلاحظ أن طواعية الكلام تقرب القاسم من الجمهور العام، ويقترب في قاموسه من نزار قباني، لكنه في أحيان كثيرة، يظهر على أنه شاعر فنتازيا كلامية، ويخترط مآسيه بالسخرية... وبنيته الإيقاعية مركبة... ولعله من أجل هذه الفنتازيا بالذات، والسخرية، جعلته سلمى الخضراء الجيوسي، شاعراً ما بعد حداثي. مات سميح القاسم وفتح كتاب شعره لنقرأه.