مثلما وجدنا لدى عمر أبي ريشة في إشارته إلى القدس تجتمع مرة أخرى إيحاءات الغدر مع إيحاءات هزيمة وخذلان لدى الشاعر الفلسطيني عبد الكريم الكرمي المعروف بأبي سلمى. ففي قصيدة عنوانها "دم أهلي" نظمها عام 1969، أي في أعقاب هزيمة حزيران التي فرح بها الشاعر اليهودي أميخاي، كما رأينا قبل قليل، نجد أبا سلمى يعمق الخطاب السياسي الاتهامي الذي سيزداد حدة فيما بعد بمجيء شعراء مثل مظفر النواب. يقول أبو سلمى: أيها الحاكمون باسم بلاديما الذي تغزلون خلف الستار كل حكم يطغى على الشعب، باسم الشعب، حكم مصيره للبوار قمم؟ أي قمة و "فلسطين" وراء الدموع والأسوار ... أصبحت العواصم بعد "القدس" ركناً في متحف الآثار بردى والفرات والنيل إن لم يسترد الأردن دمع جاري موقف لا يقل إحساساً بالصدمة يعبر عنه الشاعر أحمد الصالح (مسافر) في قصيدتين تعودان إلى أواسط الثمانينيات الميلادية. في القصيدة الأولى تحضر فلسطين، ومنها القدس بطبيعة الحال، على نحو غير مباشر حين يكتشف المتحدث، أو الشخصية القناع للشاعر وهو الشنفرى أنه جاء متأخراً إلى وطنه ليكتشف أن ذلك الوطن يباع. "الشنفرى يدخل القرية ليلاً" (1405) كان يمكن أن تحل قدس محل القرية، وأذكر أن الشاعر أخبرني يوماً أن العنوان الأصلي للقصيدة يجعل القدس فعلاً محل القرية. أما القصيدة الثانية فمن عنوانها يتضح موضوعها: "المجد أنت والحجارة صولجانك" حيث يحتفي الشاعر بأطفال الحجارة مشيراً إلى القدس تحت اسم "بيت القدس": أطفال "بيت القدس" يستسقون للأحياء أزمنة برائحة الجهاد تطيب يستسقون للوطن المناضل ثورة .. ودماً وعزماً ... دونه الشهب وتصل القصيدة ذروتها حين يخاطب الشاعر طفل الحجارة بقوله "يا سيدي .. الطفل" مشيراً إلى أن الطفل انتظر عصر الفتوح ولم يأت وأن قيد المستبد بمعصميه قد انكسر. تنتمي قصيدة الصالح مع ما سبقها من قصائد لأبي ريشة وأبي سلمى وغيرهما إلى خطاب شعري سياسي ذي مضمون قومي ووطني بارز في الشعر العربي الحديث، ومن الناحية الفنية استطاع هذا الخطاب أن يسفر عن نصوص مهمة، لكنه معرض غالباً لإغراءات المباشرة نتيجة لحرص الشاعر على توصيل رسالة الغضب أو الاحتجاج التي قد تضيع في تلافيف المجاز أو ظلال الرمز، ومن هنا كثرت النمطية على هذا النوع من الشعر. غير أن هذا لا يعني أن النصوص المشار إليها هنا تخلو من الأبعاد الفنية أو اللمحات الجمالية ففيها الكثير من ذلك، لكن الخطاب السياسي يظل طاغياً عليها. يصدق ذلك على المثال الأشهر في هذا النوع من القصائد وهي قصيدة العراقي مظفر النواب "وتريات ليلية" التي تتضمن الإشارة الشهيرة "القدس عروس عروبتكم" حيث لا يخلو النص من لمحات فنية وتراكيب تستوقف القارئ كما في توظيفه للأسطورة، وكما في قوله "قتلتنا الردة/ قتلتنا أن الواحد يحمل في الداخل ضده". لكن النص يظل مع ذلك غارقاً في المباشرة إلى جانب اللغة السوقية أحياناً كما في مخاطبته الحكام العرب وبعاطفية انفعالية آنية ترمى فيها الكلمات كما ترمى الأحذية. إلى جانب تلك القصائد بما يهيمن عليها من خطاب مباشر، هناك، كما أشرت سابقاً، قصائد أخرى تتجه إلى القدس وإلى ما يحتشد حولها من دلالات ولكن من زوايا أخرى تبدو لي أكثر قرباً من ثراء الصور الشعرية. في هذه المجموعة الأخرى نجد ما أسميته "قصيدة التجوال"، القصيدة التي يرسم فيها الشاعر معالم رحلته داخل المدينة كاسراً بذلك حدة المباشرة من خلال العنصر السردي وتعدد الصور، مع أن هذه بحد ذاتها ليست ضمانة لتحقيق فنية عالية. ما نجد هنا هي نصوص تتفاوت ليس في مستواها الفني فحسب وإنما أيضاً في مقاربتها للقدس بوصفها مدار الرؤية الشعرية، مثلما نجد اختلافاً في كيفية تشكل التجوال نفسه، فهو لا يتخذ شكلاً واحداً. هناك التجوال السريع ذو اللحظة المكثفة ورؤيته المركزة، وهناك التجوال الأطول بمحطاته المتعددة وتفاصيله المتوالية. من تلك القصائد ما تغنت به فيروز من شعر الرحابنة ولعلها أشهر ما لدينا من نتاج فني حول القدس، أقصد ما استمعنا إليه في أغنية "القدس العتيقة" التي كتبت بالعامية ومطلعها "مريت بالشوارع/ شوارع القدس العتيقة/ قدام الدكاكين ال بقيت من فلسطين"، وكذلك أغنية "الغضب الساطع آت". من قصائد المجموعة الثانية تطالعنا ثلاثة نصوص لثلاثة شعراء فلسطينيين اثنان منهم من أشهر الشعراء العرب عموماً، هما محمود درويش وسميح القاسم، والثالث لشاعر فلسطيني شاب برز مؤخراً هو تميم البرغوثي. القصائد كلها تتصل بالتجوال على نحو أو آخر. أقلها اتصالاً به قصيدة سميح القاسم، لكنها مع ذلك تنتهي على نحو يؤكد تلك الصلة. عنوان القصيدة "نافذة أخرى" ويبدو متحدثها سجيناً يسمع عن ثورة الحجارة ويتحدث عن نشوته بما يسمع حالماً بأن يتحول إلى حجر إن لم يستطع الخروج والمشي على أرصفة القدس. هكذا تبدأ القصيدة: افتحي نافذة أخرى/انزعي عن قمر الروح الستائر السنونوة تدنو من زجاج الشرفة المغلقة/ الغرفة تكتظ بموت راكد/ قومي إلى الريح القريبة وافتحي نافذة أخرى لقداس البشائر للسنونوة هذا الحجر الصاعد من موتي إلى سدرة ميلادي المهيبة ثم يمضي النص إلى أن يؤكد الشاعر/المتحدث أنه يريد أن يكون حجراً يقذف "من شهوة الزيت وأحزان المعاصر" لتأتي بعد ذلك إشارة إلى كونه يجوب السجن ويفكر بما هو خارجه من عناصر الوطن في توق إلى الخروج. وفي النهاية تتجمع الإشارات المهيئة للقدس. فهو يصلي ويتطلع إلى الأشجار والطيور ولما يسميه "أزهار الإرادة"، لينتهي إلى القول: وأصلي وأصلي جسدي المعبد، والمشي على أرصفة القدس .. عبادة! هنا تبدو القدس مدينة منتظرة، مدينة العبادة والحرية، فمجرد المشي على أرصفتها صلاة، مجرد التجوال فيها حلم مقدس، أي من طبيعة المدينة نفسها.