تعتبر عملية مبنى الأمن القومي في دمشق، والتي قتل فيها قادة «خليّة الأزمة» الأمنيين، الانجاز الأكبر بالنسبة للثورة السوريّة منذ انطلاقتها، اذ أظهرت جليّاً قوة مكونات الثورة ودقة أهدافها وثقلها. والمفارقة انّ الموقف الدولي وعلى رغم حدة الحرب في سورية، لم يرتق إلى المستوى الذي بلغته الثورة. ولا نستغرب انّ المجتمع الدولي الذي لم يقف عند حدود مغازلة الموقف الروسي والصيني فحسب، انّما أخذ خطاب الأمين العام ل «حزب الله» حسن نصر الله واعترافه على الملأ بأنّ النظام دعم المقاومة بالسلاح - ليس في لبنان فحسب انّما في غزة أيضاً - على محمل جد. بيد انّ ضرب «خليّة الأزمة» كان كفيلاً باستعادة الثوار وجمهور الثورة، معنوياتهم، في الوقت الذي كان هذا الجمهور يئنّ مطحوناً بين طرفي الرحى، أي الحل العسكري الذي صار حلاً وحيداً لدى النظام من جهة، والموقف الروسي والصيني من الثورة والحال التي فرضت على السوريين من جهة أخرى. لذلك، لا تسمع في مجالس السوريين، وبخاصة مجالس جمهور الثورة غير التذمر من انّ القوى الغربيّة ومعها روسيا والصين أطالت من عمر الأزمة السوريّة. ويدرك السوريون أكثر من غيرهم انّ مصيرهم سيبقى مجهولاً إلى حين إجراء الانتخابات الرئاسية الأميركيّة، وانّ خطاب ال «تنحي» أو «الرحيل الحضاري»، وكذلك حديث تشكيل «حكومة انتقاليّة» بقيادة مناف طلاس ما هو إلا إطالة للأزمة وحفاظاً على العلاقة التي تربط المجتمع الدوليّ مع مكونات الثورة السوريّة، وبالتالي فإنّ الحديث عن تشكيل حكومة الوحدة الوطنية أو الحكومة الانتقاليّة هو حديث لتخدير جمهور الثورة أكثر مما هو حديث فعليّ في ظل وجود نظام قائم، ما زال يرفض كل الوقائع على الأرض. وما يثير الانتباه هنا هو الاستنتاج الذي أوصله «الجيش الحر» الى الناس ومفاده أن الانجازات على الأرض قد تكون وحدها كفيلةً في تغيير موازين القوى لدى المجتمع الدولي. ولعل قول هيلاري كلينتون انّ المعارضة السوريّة صارت قريبة من إنشاء «المنطقة الآمنة» هو دليل على أنّ المجتمع الدولي يطور موقفه تبعاً للانجازات والحقائق التي يحققها «الجيش الحر» على الأرض. من هنا تأتي أهميّة سيطرة القوى المعارضة على عدد من المناطق الحدوديّة التي تعتبر مناطق إستراتيجية بالنسبة للممرات الإنسانية، الأمر الذي يعتقد القطاع الواسع من جمهور الثورة بأن تحقيقه صار قاب قوسين أو أدنى. من دون شك فإنّ حادثة «الأربعاء» شكلت حلقة مفصليّة بالنسبة الى الثورة السوريّة وكذلك بالنسبة الى النظام. بالنسبة للثورة، قلبت هذه الحادثة موازين القوى والمعطيات والوقائع رأساً على عقب، إذ تراءى للثوار أن مسألة سقوط النظام صارت قاب قوسين أو أدنى. أما بالنسبة للنظام، فإن سقوط هذه الخلية وبهذا الشكل القاصم شكل لديه خسارة كبيرة، وكشف كم انّ النظام ضعيف. حتى انّ تلفزيونات النظام نفسه، التي لم توقف هجومها على المعارضة من كل حدب وصوب، لم تستطع رأب الصدع أو إعادة الثقة بين النظام، وبين جمهوره المقيم في الدائرة الرماديّة. ما تم ذكر من خيبات أمل لدى جمهور النظام، وكذلك من تضاعف معنويات الثوار، يشكل مدخلاً مهمّاً في نجاح الثورة. مع انّ الواقع الذي فرضته الثورة يبقى مشجعاً للتقدم نحو تحقيق اهدافها لولا هذا التراجع العالمي في دعمها، فالحادثة التي تركت بصماتها في تاريخ الثورة السورية، دفعت بالثوار في المدن والأطراف الى أن يعيدوا حساباتهم ويتعاملوا مع الواقع كما هو، فالثوار (أو الجيش الحر) سرعان ما استغلوا ضعف النظام وبدأوا بالسيطرة على المنافذ الحدودية وبعض المناطق في شمال شرقي سورية. وكان الكُرد أول من بدأ السيطرة خصوصاً في منطقة كوباني (شمال شرقي حلب)، وفي ما بعد منطقة منبج وجرابلس وكذلك إعزاز ومنفذ باب الهوى. لكن السؤال الذي يطرح نفسه الآن، ترى هل ستحافظ تلك القوى على سيطرتها على تلك المناطق؟ ولا نستغرب انّ النظام الذي يعاني من السقوط البطيء صار يلعب مع المعارضة (المسلحة، الثوريّة) على أكثر من اتجاه، وذلك إيحاء منه بأنه ما زال قويّاً: 1- يلعب النظام على إغلاق مصادر الدعم من قبل الدولة للناس (خدمات، كهرباء، صحة، وغيرها) معتقداً أن القوى المعارضة المسيطرة على تلك المناطق ستجبر على التراجع لأن إدارة المدن والمجتمعات لا تقف في حدود تمركز حاجز أمني هنا وحاجز أمني هناك انّما إدارتها تتم عبر تقديم الخدمات للناس وتحقيق حياة كريمة، والنظام يعرف أكثر من أي طرف ان همّ المعارضة هو حصول مكتسبات على الأرض لا أن تقوم بوظيفة الدولة. ومن المستحيل أن يكون مستوى الخدمات التي تقدم للناس من قبل منظمات الإغاثة التابعة للمعارضة يفوق خدمات النظام، وفي ظل إغلاق جميع الدول منافذها الحدودية بعد سيطرة القوى الثوربة على تلك المنافذ، فمن الصعب بمكان إيجاد موارد داعمة للناس تؤمّن حاجاتهم. 2- استغل النظام موقف الدول المجاورة والمتعاطفة معه، فإضافة إلى محاصرته وإغلاق منافذ الدعم عبر المواد الإستهلاكية (الخبز والكهرباء والطاقة) فإنّ قرار تلك الدول وبخاصة العراق ولبنان، وفي ما بعد تركيا إغلاق حدودها مع سورية أثّر في معنويات السوريين. وتراجع العراق عن قراره السابق لم يساهم في إعادة المعنويات بالشكل مطلوب. 3- يستغلّ النظام الثغرات الموجودة في علاقة مكوّنات الثورة مع بعضها البعض وخصوصاً مع عدم وجود تنسيق محكم بين تلك المكونات. بقي القول إنّ غياب القوى المعارضة التقليديّة ومؤسساتها في تمدين الانجازات التي تكرسها القوى الثوريّة كان له تأثير كبير في القدرة الخلاقة للثورة في سورية، ولا نستغرب انّ هذه القوى التقليدية عجزت حتى ان تلعب دور منظمات المجتمع المدني بمعنى ان تمارس دورها في الوقوف إلى جانب الناس وترشيدهم وتوعيتهم، وذلك للحؤول دون انزلاق السلم الأهلي نحو الهاوية من جهة، وبناء آليات تأمين المواد الأوليّة اللازمة عند الحصار من جهة اخرى. وعكس ذلك فإنّ تلك القوى تركت الناس ليكون مصيرهم مرهوناً بما يتحقق من انتصارات بين الجيشين الحرّ والنظامي، والحق انّ المعارضة التقليدية وقفت مدهوشة كما الناس العاديين الذين لا حول لهم ولا قوة، الأمر الذي يعزز مكانة النظام في بعض الأوساط الشعبيّة وفي أوساط المجتمع المدني التي ما انفكت تحاول الهروب من مسؤولياتها الوطنيّة والأخلاقيّة تجاه بلدها الذي ينزف دماً ويُنثر سكانه على الحدود.