يقول الكاتب الأميركي هنري ميلر (1891 -1980) «كان ينبغي أن أقطع مسافة عشرة آلاف ميل قبل أن أتلقى الإلهام وأكتب سطراً واحداً». وبعد أن يجوب تضاريس بلاده ويقطع هذه المسافة الطويلة تكون النتيجة كتاب «كابوس مكيّف الهواء» الذي يتحدث عن الولاياتالمتحدة الأميركية؛ بلد الكاتب. يعيد ميلر في هذا الكتاب، الصادر أخيراً في ترجمة عربية عن دار المدى (دمشق 2012 )، اكتشاف اميركا بعدما استقر سنوات في اوروبا، وعندما عاد الى بلاده، نهاية ثلاثينات القرن الماضي، أراد أن يتصالح مع بلده ويضع كتاباً يختزل فيه رؤيته حول هذه البلاد التي تمثل حلماً زاهياً لأناس كثيرين، فهل هي، حقاً، كذلك، بلاد الأحلام والطموحات والعدالة والسعادة؟ منذ الصفحات الأولى يكتشف صاحب «مدار السرطان» خطل الفكرة القائلة بأن اميركا هي موطن الأحلام، وتحقيق الأمنيات. إنها خدعة تغري بالمغامرة، بيد أن ميلر لا يستسلم لهذا الرأي النمطي الذي يرى في اميركا مصرفاً للمال، وواحة للبهجة والرخاء. ومثل هذا الاستنتاج لا يأتي كتنظير مجاني يطلقه كاتب معزول عن محيطه؛ جالس وراء مكتب وثير. هو استنتاج جاء عبر رحلة طويلة يجوب خلالها اميركا من شرقها الى غربها ومن شمالها الى جنوبها. ينتقل بين المدن والبلدات والقرى، ويسافر عبر عزلة الصحراء وخضرة السهوب والسهول، ووعورة الجبال وبمحاذاة الشواطئ. يتعرف على بلاده من جديد، ويقتفي كل أثر. يرصد الأمكنة وملامح البشر. يسير في دروب الريف البعيدة، وشوارع المدن المكتظة. يصغي الى أصوات الراحلين من الساسة والأدباء والزعماء والمثقفين والفنانين، مثلما يصغي الى اصوات الباعة والسائقين والفلاحين والخدم ورعاة البقر وقطاع الطرق. بعد كل هذه الجولات يصوغ مشاهداته ضمن هذا النص الأدبي الذي ترجمه أسامة منزلجي. نص يستمد حرارته ورونقه من تفاصيل الحياة الاميركية بكل تشعباتها وصخبها وفوضاها، بينما تكمن قيمته في ذلك الحس النقدي الرفيع الذي يتمتع به الكاتب وهو يختبر نمط الحياة في تلك الجغرافيا المترامية الأطراف، والمتنوعة. يعيب ميلر على أولئك الوافدين والمهاجرين الذين حلموا بأرض الأحلام، واستقروا فيها مبهورين بالقشور والمظاهر الخارجية، من دون أن يتمكنوا من النفاذ إلى المعاني المخبأة خلف ذلك البريق المزيف. فأميركا، التي جال في أرجائها، تفتقر الى الفن، والديموقراطية على عكس الاعتقاد الشائع. هي بلد الروتين القاتل والافتقار الى القيم، والتخلف المزمن. إنه يرى أميركا بارعة في الدمار، وفي صناعة السيارات، وفي الحديث عن تجارة الازرار. يخاطب ميللر أولئك المخدوعين بحداثة اميركا على هذا النحو: إنهم يرون سيارة جميلة، براقة تمر بهم مسرعة كقطة؛ ويرون دوراً للسينما تبدو كالقصور، ومخازن متنوعة تضم عارضات أزياء يرتدين كالأميرات. انهم يرون الجواهر الرخيصة، والأدوات الغريبة، ووسائل الرفاهية، ولا يرون المرارة في القلب، ونزعة الشك، والسخرية، والخواء، والعقم، واليأس، وانعدام الأمل». بهذه اللغة الصريحة الجارحة، وبتلك النبرة التهكمية الساخرة، يمضي في كشف الخفايا، وفضح النزعات الأنانية والفردية لمواطنيه، وكأن أميركا هي مجرد كابوس. لكنه مكيف الهواء. كابوس يعمه «ضجيج المُحركات وصفّارات المصانع»، ولا قيمة لشيء آخر سواء في مجال العلاقات الاجتماعية، او في مجال القيم والمبادئ، أو في مجالات الفنون والثقافة. يقول ميللر: «لا يوجد بطل شجاع في قول الحقيقة في عالم النشر، ولا شركة إنتاج أفلام واحدة مكرسة للفن بدل الأرباح، وليس لدينا مسرح يستحق اسمه، وليست لدينا موسيقى تستحق الذكر... وعلى امتداد العشرة آلاف ميل، التي قطعتها في سفري، مررت بمدينتين تحتوي كل منهما مقطعاً صغيراً يستحق إلقاء نظرة ثانية عليه، أعني بقولي تشارلستن ونيو اورليانز، أما المدن الأخرى، والبلدات والقرى التي مررت بها، فآمل ألا أراها ثانية... إن كل ما كان ينطوي على جمال أو أهمية أو وعد دُمِّر ودُفِن تحت جلمود التقدم الزائف». وإزاء هذا الزيف الذي يغلف كل شيء، فإن الشيء الحقيقي الوحيد يبقى غافياً في نفوس أولئك الهنود؛ سكان البلاد الاصليين الذين ظلوا، لقرون طويلة، مخلصين لتلك القارة العذراء إلى أن جاء البيض، وانتزعوا منهم كل ذلك الصفاء الروحي، والتآلف الفطري مع الطبيعة البكر: فالهنود، الذين جردناهم من ممتلكاتهم، وأهلكناهم، ووضعناهم في مرتبة المنبوذين، كانوا يبجلون الأرض. الغابات كانت سليمة، والتربة غنية وخصبة. وقد عاشوا في تناغم مع الطبيعة حياة وصفناها نحن بالتخلف. وعلى رغم انهم لم تكن لديهم لغة مكتوبة، كانوا شاعريين حتى اللب، ومتدينين بعمق. ثم جاء اجدادنا واحتقروا حكمة الحياة التي كان يمتلكها الهنود وشوهوها». ويبدي تعاطفاً كبيراً مع أولئك الهنود الذين تعرضوا لغزوات مفاجئة ودفعوا أثماناً باهظة من ممتلكاتهم وأرواحهم بسبب غرور الغازي وجبروته وأنانيته. إنه يحيي تاريخاً دامياً لا يمكن الحداثة الفاقعة أن تخفي آلامها المزمنة. يعتقد القارئ، للوهلة الأولى، ان هذا الكتاب ينتمي الى أدب الرحلات. لكن هذا التصنيف لا يفي الكتاب حقه، فهو خليط من أدب الرحلات والسرد الروائي، ومن السيرة الذاتية، بل ان الكتاب ينطوي على نقد اجتماعي وعلى جوانب فلسفية وعلى حالات من التأمل الوجداني، ذلك أنه يتخطى الوصف الواقعي نحو التأويل واستخراج الدلالات العميقة من هذا المشهد العياني أو ذاك. وينأى الكتاب، تماماً، عن الجانب السياحي الذي ميز بعض الكتابات التي وثقت للأسفار والرحلات. كل فرد، وخصوصاً إذا كان كاتباً، في مقدوره أن يقوم بجولات ثم يضع انطباعاته، ويصف الطيور وكائنات الطبيعة وسحنات البشر وطراز المباني، وأنماط المعيشة. التجوال، عندئذ، يغدو نوعاً من التسلية وتزجية الوقت. لكن مع ميلر الأمر مختلف تماماً. إنه يحول رتابة الحياة الى مفردات تنبض بالسحر والدهشة، وهو يتحلى بجرأة نادرة في تسمية الاشياء بمسمياتها من دون اي لبس. يقول الحقيقة عارية، مباشرة من دون أن يخضع لأي سلطة سوى سلطة الفضول الجامح والكشف الذي لا يعرف الخطوط الحمر. فالكاتب، الذي عرف بنصوصه الإباحية، بدا في «كابوس مكيف الهواء» ملتزماً بتحطيم الاسطورة الاميركية التي فتنت العالم، وهو في هذا المسعى لا ينطلق بدافع من الانتقام أو جلد الذات، ولعله من القلائل ممن يمتلكون الشجاعة للبوح بما هو مسكوت عنه، ومثلما ان ماركو بولو «ابتكر آسيا للذهنية الأوروبية»، فإن ميلر، بدوره، يضع الحقائق المريرة عن بلاده بين دفتي كتاب، وهو كتاب لا يصلح، البتة، أن يكون «دليلاً سياحياً»، بل هو تحذيرات وملاحظات وأسئلة عن بلد يغفو بعذوبة في أحلام بسطاء العالم. لكن الكاتب يكشف الوجه الآخر الخفي، ويرى ان بلاده تسير نحو الهاوية ولا بد من ابتكار سبل للنجاة.