لطالما أثارت أمريكا منذ اكتشافها مخيلة الكتاب والشعراء والفنانين الذين رأى بعضهم إليها بوصفها عاصمة الحلم الإنساني الهارب من ربقة العالم القديم باتجاه مستقبله المفتوح على المغامرة والفضاء الحر وصناعة الأمل. في حين أن آخرين ذهبوا إلى الطرف النقيض حيث ما لبثت الولاياتالمتحدة أن اختزلت الاسم التاريخي للقارة الجديدة محكمة قبضتها على العالم ومفرغة الحرية التي أقامت لها تمثالا شاهقاً على مداخل نيويورك، من دلالاتها الإنسانية والإيجابية لتصبح ذريعة للجشع وتكديس الثروات ونهب مقدرات الشعوب. والطريف في الأمر أن اكتشاف أمريكا بحد ذاته هو حدث محكوم بالمفارقة حيث ذهب تودوروف في كتابه «فتح أمريكا» إلى أحد الأهداف الأساسية لرحلة كولومبوس كانت الحصول على كميات من الذهب كافية لتجهيز حملة صليبية جديدة لاستعادة بيت المقدس. لقد بدت أمريكا وبخاصة في القرنين الفائتين، موضوعاً شديد الثراء للأدب والفن في تجلياتهما المختلفة. وإذا كان البعض قد رأى في تطورها المطرد وكشوفاتها العلمية الباهرة وتخففها من ثقل التاريخ وأوزاره الذريعة الملائمة لامتداح هذه التجربة الفريدة فإن البعض الآخر رأى فيها صورة فاوست الذي باع روحه للشيطان لقاء الحصول على العلم والمعرفة، أو صورة ناطحات السحاب التي يحوّل علوها الشاهق الإنسان إلى دمية أو ذبابة أو تفصيل بائس داخل آلة التكنولوجيا العمياء. ورغم أن مئات الكتاب قد انبروا لهجاء النزوع الأمريكي إلى السيطرة والاستحواذ وإفراغ الحياة من جمالها الروحي فإن الكتاب الأمريكيين أنفسهم قد انخرطوا في تلك المواجهة الضاربة بين صورتي أمريكا المتباعدتين، يكفي أن نعود بالذاكرة إلى القرن التاسع عشر لنقف ذاهلين إزاء سعي والت ويتمان في ديوانه «أوراق العشب» إلى إنقاذ الحلم الأمريكي الأصلي ومنعه من التحول إلى كابوس «سأجعل هذه القارة خالدة / سأخلق أرضين سماوية رائعة / سأزرع الرفقة كثيفة على أنهار أمريكا / وسأبني مدنا متعانقة بالأذرع» لكن كتاباً أمريكيين آخرين كانوا أكثر قسوة من ويتمان وأقل حرصاً على تمويه الصورة المخزية والمشوهة للبلاد التي طالما تغني قادتها بالدفاع عن الحرية وحقوق الإنسان. تلك الصورة الأخرى تتبدى جلية في روايات هنري ميلر كما في قصائد ألن غينسبرغ التي حول بعضها إلى صرخة عاتية في وجه الظلم : «أميركا لقد أعطيتك كل شيء وها أنا الآن لا شيء / أميركا متى تنهين محاربة البشر؟ / أميركا متى تصبحين ملائكية؟/ أميركا لماذا تمتلئ مكتباتك بالدموع؟».