وصول الطائرة الإغاثية السعودية الثامنة إلى مطار دمشق الدولي    إحصائيات الخدمات الصحية لمستشفى القويعية لعام 2024م: أرقام تبرز الكفاءة والإنجاز    20 % نمو العقود التمويلية لبرامج الدعم السكني عام 2024    البرلمان اللبناني يفشل في اختيار رئيس للجمهورية    المرور السعودي: استخدام الجوال يتصدّر مسببات الحوادث المرورية في جازان    حساب المواطن: إيداع 3.1 مليار ريال مخصص دعم شهر يناير    فن "صناعة الأبواب والنقوش الجصية" لا زال حاضرًا في الذاكرة    «الإحصاء»: ارتفاع مؤشر الأنشطة النفطية 3.8%.. و«غير النفطية» 2.4%    انطلاق الجولة ال14 من دوري روشن السعودي للمحترفين.. اليوم    النفط يهبط مع مخاوف الطلب وارتفاع الدولار والتركيز على سياسات الطاقة القادمة    استشهاد 19 فلسطينيًا في غزة    «كارثة كاليفورنيا» تلغي رحلة بايدن.. الأخيرة    افتتاح شارع الخليفة عمر بن الخطاب بالدمام    إطلاق كائنات مهددة بالانقراض في محمية الإمام تركي بن عبدالله    وفاة رجل بسرطان من تبرُّع.. هل تنتقل الأمراض النادرة عبر عمليات الزرع ؟    نائب أمير تبوك يطلع على مؤشرات أداء الخدمات الصحية    وزير الخارجية يبحث المستجدات مع نظيريه الإسباني والبريطاني    مشعبي يطالب بإيقاف أفراح «الكأس» والتركيز على «الدوري»    النقش على الحجر    أمير القصيم يتسلم التقرير الختامي لفعالية "أطايب الرس"    من أنا ؟ سؤال مجرد    الرماح والمغيرة يمثلان السعودية في رالي داكار 2025    الأردن: السجن ل 3 متهمين في قضية «حج الزيارة»    الاتحاد يصطدم بالشباب.. والقادسية يواجه الرائد    ما ينفع لا ما يُعجب    ولي العهد عنوان المجد    هوبال    برشلونة يتأهّل لنهائي كأس السوبر الإسباني على حساب أتليتيك بلباو    تعزيز التعاون السياحي السعودي - الصيني    بلدية محافظة الشماسية تكرّم متقاعديها تقديرًا لعطائهم    345.818 حالة إسعافية باشرها "هلال مكة" 2024    أمانة مكة تعالج الآثار الناتجة عن الحالة المطرية    أمير المدينة يرعى المسابقة القرآنية    طالبات من دول العالم يطلعن على جهود مجمع الملك فهد لطباعة المصحف    بيئة الجوف تنفّذ 2703 زيارات تفتيشية    المملكة تحافظ على صدارتها بحجم الاستثمار الجريء    67 % ضعف دعم الإدارة لسلامة المرضى    مستشفى الدكتور سليمان الحبيب بالفيحاء في جدة ينجح في استئصال جزء من القولون مصاب بورم سرطاني بفتحة واحدة    قطاع ومستشفى تنومة يُفعّل حملة "التوعية باللعب الالكتروني الصحي"    تحرير الوعي العربي أصعب من تحرير فلسطين    التأبين أمر مجهد    الاتحاد والهلال    أمير المدينة يطلع على مشاريع تنموية بقيمة 100 مليون ريال    «ترمب شايل سيفه»    الاتحاد يوافق على إعارة "حاجي" ل"الرياض" حتى نهاية الموسم    قصة أغرب سارق دجاج في العالم    إنتاج السمن البري    أسرتا الربيعان والعقيلي تزفان محمد لعش الزوجية    دكتور فارس باعوض في القفص الذهبي    على شاطئ أبحر في جدة .. آل بن مرضاح المري وآل الزهراني يحتفلون بقعد قران عبدالله    تعزيز الذكاء الاصطناعي في القطاع الصحي    عناية الدولة السعودية واهتمامها بالكِتاب والسُّنَّة    المنتخب الجيد!    اطلع على إنجازات معهد ريادة الأعمال.. أمير المدينة ينوه بدعم القيادة للمنظومة العدلية    مجموعة (لمسة وفاء) تزور بدر العباسي للإطمئنان عليه    القيادة تعزي رئيس جمهورية الصين الشعبية في ضحايا الزلزال الذي وقع جنوب غرب بلاده    يهرب مخدرات بسبب مسلسل تلفزيوني    أمير المدينة يتفقد محافظة العيص    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حياة هنري ميلر البسيطة
نشر في الرياض يوم 12 - 11 - 2009

"ما نأمله حين نمد أيدينا لتناول كتاب ما ، هو أن نلتقي برجل من لب قلوبنا ، لكي نجرب خوض مآسٍ و أفراح نفتقد في حياتنا الخاصة الجرأة لدعوتها أو لمقاربتها ، لكي نحلم أحلاماً تقود الحياة للمزيد من الهلوسة ، و ربما أيضاً لنكتشف فلسفة الحياة و التي ستجعلنا أكثر ملاءمة لمواجهة المحن و الصعاب التي تُحدق بنا من كل الجهات . أما تناول كتاب لمجرد الإضافة لمخزوننا من المعرفة أو لصقل ثقافتنا ، مهما كان معنى ذلك ، فيبدو لي بلا قيمة ." عبارة هنري ميلر هذه تجعلنا نفكر في هذه الهلوسة التي يسعى للاستعانة بها لإثراء حياته ، هذا الخروج عن اللغة المفهومة و عن العبارات التي تقول ما يتوقعه الآخرون الذين اعتادوا القراءة في سبيلهم للتحول تدريجياً لشرائح ذاكرة كذاكرة الكمبيوتر ، والتي تكدس بلا عناء الإحصائيات و الاسماء و التواريخ والحقائق و النظريات ، و رفع المنسوب النظري في تلافيف عقولهم . دوماً هناك هذا الحد الرفيع بين ما نكتسبه من خزين معلوماتي و بين تشكيل الوعي ، أو بلوغ النشوة الروحية التي تقود لتنوير . كم من الكُتَّاب ينقلك لموسوعته العلمية ، و كم هم أولئك الذين ينطقون من دخيلة قارئهم ، مثل قطب يقدح أقطابهم الخفية ، ليرسل صعقات كهربائية تستقر بقاع الكيان ، تعيد صياغته و جلاءه .. أينها تلك الأقطاب التي تهزك و لا تعود بعدها الأنت الذي كنته . هناك من يجعل المعاني تتفجر برأسك و تنتقل حماها لأصابعك في كلمات تعجز عن تحديد مصدرها ، تحولك من قارىء لضالع في الكتابة ، كتابتك . و من هنا تنبع الحيرة عن أصل الكتابة أو الفن كناقل لوحي.
في عبارة لميلر يقارب بين الكاتب بصفته مرصدا ، أو بالأصح مثل مانعة صواعق تمتص الصعقة و تكون قادرة على تحويلها لتيار يسري في نهر الحياة و الأحياء ، يُعَبِّر ميلر عن ذلك بقوله:
" لكي يُولد الإنسان كاتباً لا بد و أن يتعلم أن يحب الحرمان و العوز ، و العذاب ، و المهانة ، و فوق كل شيء على المرء أن يتعلم كيف يعيش منفصلاً ، أن يبتعد ، مثل القرد الكسلان --sloth الذي يتعلق بأشجار الغابات الاستوائية بأميركا الجنوبية-- ، يتعلق الكاتب بغصنه بينما في الأسفل تجيش الحياة و تتلاطم أمواجها ، مطردة ، مثابرة صاخبة مشاغبة . و حين يصبح جاهزاً بلوب ! يسقط في التيار و يصارع من أجل الحياة . أليس ذلك هو الكاتب ؟" عبارة ترد في كتابه الذي بعنوان رابطة (Nexus) و نعيش فيها عمق السقطة التي مارسها المبدعون الذين نجحوا في خطفنا لحياة وراء حياة . . يقرب ميلر لنا هذه السقطة بقوله:
" يقرأ الناس للتسلية ، و لقتل الوقت ، أو ليتلقوا الإرشاد . و الآن ، أنا لم اقرأ قط لقتل الوقت أو لكي اتعلم ، أقرأ لكي أُؤخذ خارج نفسي ، لكي انتشي . أنا دوماً في حالة بحث عن الكاتب الذي يستطيع أن يرفعني خارج نفسي ." هل الفراغ هو الذي يدفع للقراءة ؟ فيكون غرض القارىء الامتلاء ، و هل يكون الامتلاء بالمألوف أم بالغريب ؟
" من الصعب ألا تُعجب بالكاتب الذي يمضي موطداً العزم في عمله الخاص بطريقته الخاصة بدون أدنى تنازل لأي نمط سائد".
لكن ماذا عن اللحظة التي تتحول فيها هذه الخصوصية لبصمة تلاحق صاحبها كلعنة ، ماذا عن اللحظات التي تسعى الأصابع لخلع نقشها الأبدي والتحول لصمت ، لمساحة من الكتمان ؟ ماذا حين ترفض الأصابع الدلالة على ذاتها؟ في أي نهر تغطس البصمة لتقول حكاية غير حكايتها الأبدية ؟ معضلة تواجه الكثير من الكتاب و تقودهم أحياناً لسكتة قلبية أو دماغية ، في كتابه نيكسوس يحمل البطل اسم إسحاق دست ، بمعنى الرماد أو الغبار ، هذا المتبدد الذي يهتف ( وحيداً أخيراً مع إكزيما الدماغ . يا للروعة ! لكن الأمر ليس كما توقعته ، لو أن بوسعي أن أكون وحيداً مع الله .. اسمي اسحاق دست ، أنا في سماء دانتي الخامسة ... أهذي مثل Strindberg – مطور المسرح الحديث -- ما أهمية أن يكون الواحد هو الوحيد ، أو فيما إذا كان لهذا الواحد من منافس ...) تتلخص هنا الوحدة في المسرح الذي يبتكره الكاتب و يتوحد معه بحيث تتناقض مغادرته مع الحياة اليومية ، وحدة يتناهى فيها الواحد مستشرفاً لكليته.
خلافاً لمذكرات ميلر الشهيرة و لرواياته (مثل مدار السرطان و مدار الجدي) يجيء كتاب هنري ميلر بيق سور،
(Big Sur and the Oranges of Hieronymus) ، و لا يحمل من ملامح الرواية المعروفة عنه . حيث يغادر ميلر مسرحه الكتابي المألوف ليتكلم في كتابه هذا عن الحياة البسيطة في منطقة بيق سور بكاليفورنيا ، و التي تباشر البحر و تغرق في غابتها و طبيعتها المشرقة . منطقة مهددة بالانقراض بكامل قيمها و انعزالها و مجموعاتها الفنية التي اقتناها الفنانون من سكانها ، المنطقة التي ظلت تمثل و حتى الستينيات واحدة من آخر الصوامع النادرة للجمال و البساطة على كوكبنا ، و لقد اعتكف فيها ميلر لما يزيد على الثلاثة عشر عاما من أواخر حياته . سنوات أفرزت كتابه بيق سور ، الذي أقام فيه ميلر أسطورة أميركية للعقل الحديث ، اقام تلك الأسطورة من مفردات المكان البكر و شخصياته الفريدة من الفنانين اللاجئين لتلك الطبيعة الآيلة للانقراض ، شخصيات و طبيعة خارجة عن التيار العام ، و عن تقليدية المجتمع و معوقاته ، لتشكل بعفويتها و إشراقها الروحي نقطة جذب و استقطاب لأصحاب الرؤى ، فيتقاطرون طالبين اللجوء لاستحالتها.
في تلك الأسطورة تبلورت رؤيا ميلر ، و يجيء هذا الكتاب الصغير كخلاصة لصراعه عبر مشوار نضجه ليصير كاتباً معروفاً و ينتهي لمجرد رجل أكثر حكمة ينظر للحياة وراءه و للكون من حوله و يحيل مفرداتها أو لغتها المجردة والمعقدة للغة الرجل العادي . هذا المشوار أو الانحلال للغة الرجل العادي هو ما يُخرس الكتابة عادة ، هو ما يتحدى الكتابة و تفشل في تخليقه ، لأنه تحول درامي من الشفرة لتجلياتها الحية ، الانتقال من الكلمة للحي هو التحدي الذي يواجه الكُتَّاب الذي جربوا مذاق النجاح و خاضوه لما وراء ، لاتخاذ الكتابة كوسيط تواصل مع الكون ، للتماهي مع فكرة الحي ، تنتهي الكتابة كوسيلة تعبير عن أو تقليد للحياة ، لتصير وسيلة وجود ، و اكتشاف متواصل لهذا الوجود.
بيق سور هو خلاصة لفصل يجيء كخاتمة ربما لمجمل حياة ميلر بعنوان ( هذا هو جوابي) ؟ الرجل الذي قضى حياته متنقلاً بين التشرد بأوروبا أو نيويورك أو العزلة في بيق سور ، الرجل الذي تزوج بثلاث من النساء اللواتي ارتبط وجودهن بالفن ، مثل عازفة البيانو بياتريس ويكنز و جون إيديث العاملة بمسرح برودوي.. الرجل الذي عشق باريس و تشرد في شوارعها يكتب ، متأثراً بشخصياتها البوهيمية و بالشاعر رامبو خاصة..
ينبثق الكتاب و يكتمل من عنوان فصل ( هذا هو جوابي)
و يدفعك للتساؤل جواب ماذا؟ الحياة ؟ الكتابة ؟ الفن عموماً؟ لتخمِّن أنها إجابة في البحث عن تواجد الفن ضمن الحياة أو تواجد الحياة في الفن ، أو الفن المعاش ، الذي هو غاية الإبداع أو الوجود الإبداعي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.