لا يزال الجيش الإسرائيلي يتكتم على تفاصيل كثيرة في المجزرة التي ارتكبها صباح الأول من الشهر الجاري في مدينة رفح، وأوقعت أكثر من 150 شهيداً فلسطينياً في أقل من ثلاث ساعات، وذلك بعدما صدرت الأوامر بتطبيق ما يعرف ب «بروتوكول حنيباعل (هنيبعل)» لمنع أسر الجندي هدار غولدن، فتمّ قصف وتدمير حي كامل في المدينة على ساكنيه بأكثر من ألف قذيفة مدفعية في موازاة قصف عنيف للطيران الحربي. أثارت المجزرة ردود فعل في العالم، ويتوقع أن تكون محور تحقيق اللجنة الدولية التي عيّنها مجلس حقوق الإنسان في جنيف، فيما تسعى منظمات حقوق إنسان، إسرائيلية ودولية، لتقديم المسؤولين عن المجزرة للمحاكمة الدولية. كما أثارت المجزرة نقاشاً وإن ما زال على نار هادئة حول «أخلاقيات الجيش الإسرائيلي» الذي يكرر سدنة الدولة العبرية، صباح مساء، بأن لا مثيل لها في العالم. ولم يعقّب مسؤولون عسكريون رسمياً على المجزرة، لكن وسائل إعلام إسرائيلية نقلت عن ضباط كبار قولهم إن «بروتوكول حنيباعل»، نُفذ في رفح في ذلك اليوم، ب «الكامل». قبل ثلاثة عقود، تناول أركان الحكومة والجيش سبل منع وقوع جندي إسرائيلي في الأسر، وتم وضع «بروتوكول حنيباعل» ليحدد قواعد السلوك الفوري للقيادة العسكرية الميدانية في حال وقوع جندي إسرائيلي في الأسر، وذلك ضمن «الكود الأخلاقي» للجيش الذي وضعه البروفسور آسا كشير. وينص «البروتوكول» على أنه «ينبغي العمل، قدر الإمكان، على وقف عملية اختطاف، من خلال استخدام النيران، لكن ليس على نحوٍ يقود، باحتمال كبير، إلى موت المختَطَف، من خلال الإدراك بأن قيمة حياة المختطَف أهم من ثمن الاختطاف». وطبقاً لتقارير صحافية، تم خلال العقود الثلاثة الماضية تطبيق البروتوكول في أربعة حوادث اختطاف من دون فائدة عملية، مرتين على الحدود مع لبنان (عامي 2000 و2006)، ويوم اختطاف جلعاد شاليط إلى غزة (2006)، والمرة الأخيرة في الحرب الحالية على غزة عند اختطاف الجندي هدار غولدن ومقتله ومحاولة الخاطفين أسر جثته أو أجزاء منها. في كل الحالات قام الجيش الإسرائيلي بإطلاق كثيف لقذائف دبابات وراجمات على الخاطفين وتمشيط مناطق الخطف من دون أن ينجح في إحباط أي من عمليات الخطف. وعلى ما سمحت الرقابة العسكرية بنشره، ففي صباح يوم الجمعة، الأول من هذا الشهر، وبعد ساعة وثلث الساعة على دخول الهدنة حيز التنفيذ، هاجم فلسطينيون موقعاً للجيش في احد أحياء رفح أوقع قتلى في الجانبين. وكتبت صحيفة «هآرتس»: «بعد دقائق من النيران الكثيفة في المنطقة وعندما اقترب جنود إسرائيليون أكثر إلى موقع الحادث رأوا ثلاث جثث، ظنوا أنها لرفاقهم، لكن تبين أن اثنتين منها لجنديين وثالثة لمقاتل فلسطيني خدع الجنود بارتداء زيّ عسكري إسرائيلي، عندها أيقنوا أن الجندي غولدن مفقود، ففتحوا النيران الكثيفة في كل اتجاه، من قذائف مدرعات ومدفعية وراجمات، كما نفذت هجمات من الجو على كل الحي، بهدف خلق منطقة معزولة ظنّ الجيش أنه يمكن ايجاد غولدين فيها، وحرص على ألا يتمكن أي شخص من الخروج منها أو الدخول إليها. وأكدت التقارير أن قصف الحي تواصَل أيضاً بعد الإعلان رسمياً عن غولدن قتيلاً». وتم تفجير مئات البيوت على ساكنيها بلا تمييز، وسقط العشرات من المدنيين في الشوارع حين حاولوا الهرب من بيوتهم. وأقرّ الجيش بمقتل أبرياء في هذه العملية. وتناول المعلق في «هآرتس»، تسفي بارئيل، ما حصل في رفح بلهجة استنكار لتطبيق البروتوكول «بهذه البشاعة»، مشيراً بدايةً إلى أن الحكومة والمؤسسة الأمنية لم يتطرقا لدى إقرارهما «البرتوكول» منتصف ثمانيات القرن الماضي الى الانعكاسات السياسية - الاستراتيجية لتطبيقه من دون رقابة جدية. وأضاف مستهجناً: «مرتين خلال الحرب على غزة تنفست إسرائيل الصعداء، الأولى حين أقر الجيش موت الجندي اورن شاؤول، والثانية إعلانه موت الضابط غولدن، حتى خيِّل لي أن ثمة نبرة من الشعور بالانتصار، لا الحزن، رافقت إعلان موت الجنديين، ف «حماس» لم تنجح في خطف الجنديين وبذلك نجَت الدولة من صدمة مضاعفة، ومن تظاهرات لإعادة المخطوفين واحتجاجات ذويهم وتظاهرات أخرى ضد صفقات تبادل أسرى». وأضاف أن الإسرائيليين أصبحوا يفضلون جنوداً قتلى على أسرى أحياء، «الحرب والموت والجنازات والعزاء - هذا هو الترتيب المفضل لإسرائيل حكومةً وشعباً، لأن من شأن أسر جندي واحد أن يحطم تماماً صورة النجاح ورواية النجاح التام، فالأسير بات يعكس إخفاق دولة بأكملها... بكلمات أبسط، بتنا نقول: أعطونا الأسرى موتى ونكون سعداء». ووصف الكاتب «بروتوكول حنيباعل» بأنه «مُنتَج مشوه وشيطاني، يعني بلغة الشارع أن يموت العالم ومعه الجندي المخطوف والأهم ألا نشعر بالخزي. وكيف نحقق ذلك؟ بقصف بالمدفعية الثقيلة وتفجيرات من الجو، وتدمير كل ما يتحرك في منطقة الاختطاف لمنع الخاطفين من الهرب، ولا ضير في موت مئة أو حتى ألف مدني فلسطيني، ولا مشكلة في أن تتم تسوية مئات البيوت بالأرض، وأن يبقى أطفال يتامى وتغرق نساء حبالى بدمائهن، بشرط أن يموت الخاطفون، وربما يموت المخطوف معهم». ويرى منتقدون لتطبيق «البروتوكول» أن قيادة الجيش لم تتناول بالجدية المطلوبة معنى نصه مع القادة الميدانيين. ولم يشرحوا ما المقصود ب «إطلاق النار لكن ليس على نحوٍ يقود، باحتمال كبير، إلى موت المختَطَف». ورأى المعلق في الشؤون الاستراتيجية رونن برغمان أنه عند وضع هذا البروتوكول فهِمَ منه أن «الدولة تفضل أن تقتل الجندي على وقوعه في الأسر سالماً معافى». ويقول واضع البروتوكول البروفسور كشير ان البروتوكول وُضع لمحاولة منع الخطف، «لكن يجب ألا يكون الثمن تعريض حياة المختطف لخطر حقيقي»، بل العكس، «فجندي مختطف أفضل من جندي ميت». وينبّه إلى أن السماح من خلال استخدام هذا البروتوكول باحتمال قتل الجندي المختطف، «معناه أن الهدف هو تسهيل المفاوضات بالنسبة إلى الطاقم السياسي في المستقبل، وهذا أمر مغلوط وغير أخلاقي». وكتب المعلق أوري عراد في موقع «واينت» ان استخدام تدبير «هنيبعل» لمنع وقوع جندي في الأسر هو «جريمة أخلاقية تنبع من وجهة نظر فاشية تعطي الأولوية للدولة على الفرد، أي لا تحترم حياة الفرد الذي يعرّض حياته للخطر دفاعاً عن دولته وهو على يقين بأن الدولة ستفعل كل ما في وسعها لإعادته حياً وهي لن توجه سلاحها نحوه». وشدد على أنه لا يوجد أهلٌ يفضلون موت ابنهم على وقوعه في الأسر، واعتبر الكاتب «البرتوكول» خرقاً للثقة المستوجبة من الدولة تجاه الجندي وعائلته، بل تنكراً من جانبها (الدولة) لواجبها ببذل كل شيء من أجل إعادة المقاتلين إلى وطنهم».