«ظننت أن ما رأيته كان عنيفاً بما فيه الكفاية، واعتقدت معرفتي ما تعنيه كلمة العنف، بيد أني كنت مخطئاً، فالأسوأ كان في بدايته فقط». جوناثان ليتل الكاتب الأميركي الفرنسي يعلنها بوضوح: «المجزرة التي طالما خشوا حدوثها في بنغازي، كانت تقع حقاً في حمص». في «أوراق من حمص»، كتابِه الصادر حديثاً في باريس عن دار غاليمار، يصف ليتل ثمانية عشر يوماً (انتهت في 2 شباط/ فبراير الماضي) قضاها بصحبة الثائرين في حمص، متنقلاً بين أحيائها الأشد سخونة، التي باتت أسماؤها مألوفة حتى لدى من لا يعرف تلك المدينة: بابا عمرو، الخالدية، البيّاضة، باب السباع، الصفصافة، باب الدريب، كرم الزيتون، باب تدمر... وغيرها، إنها تدوينات «للحظة موجزة انقضت». نص خام، كان في بدايته أساساً لمقالات نشرت في جريدة لوموند، ثم ارتأى كاتبها نشْرَها كما هي في كتاب، للتعبير عن هذه اللحظة الموجزة التي لا شاهِدَ خارجياً عليها إلا في ما ندر، ولعرض الأيام الأخيرة من انتفاضة جزء من مدينة حمص «ضد نظام بشار الاسد قبل ان تُسحق في حمام من الدم ما زال قائماً». ليست هذه الزيارة الاولى لهذا الكاتب لأماكن الصراعات في العالم، فهو تنقَّل في السابق بين البوسنة والشيشان وأفغانستان والكونغو وجنوب السودان، وها هو في حمص مكلَّفاً من «لوموند» كتابةَ تحقيق طويل عن المأساة. دخل سوريا سراً صحبةَ المصور ماني، وخط ملاحظاته ومشاهداته على دفاتره. الروائي الحائز جائزة غونكور وجائزة الأكاديمية الفرنسية عن روايته «المتسامحات»، الكاتب الأميركي الذي اختار فرنسا وطناً ثانياً والفرنسية لغة للتعبير، لم يشأ أن يحوِّل أوراقه إلى رواية، إنها مجرد شهادة عن الفظائع، ينبه: «هذه وثيقة» وليست نصاً أدبياً. ولكن ما الذي تضيفه هذه الوثيقة إلى ما سبقها؟ إلى كل ما حلله سياسيون وكتبه صحافيون وأبرزه مصورون؟ إنها باختصار كل ما لا يستطيع سياسي قولَه ولا صورةٌ نقْلَه ولا تقريرٌ سريع التعبيرَ عنه، إنها فضاء يتحرك فيه أناس لا تسعنا عادة رؤيتهم من قرب، ولكننا نكتفي بسماع اقوالهم والحديث عن إنجازاتهم... ولكن من هم حقاً؟ من يكون هؤلاء في سلوكهم اليومي؟ هذا السلوك الذي يحدد ماهيتهم أكثر من الأقوال والأفكار، فالناس مخلصون لذواتهم أكثر من أفكارهم. ليس الحدث ما يهم فقط هنا، بل صانعوه، ليس بطولاتهم فحسب، إنما هم، ليس تحليل الواقع أو كشف أشياء استثنائية، بل نظرة روائي إليه. الروائي هو الذي يجعلنا نعيش الأجواء ونحس بالناس، نقترب من عالمهم، من هم، كيف يعيشون، كيف يتصرفون، ما الذي يحركهم: الشجاعة، الكره، الخوف، الانكماش على الذات، التوق إلى الحرية...؟ هذا الروائي يحضر أحياناً في الصفحات، حين يلحظ عبور غيمة أو قطيع من الخراف، حين يراقب مزارعين على الطريق بين طرابلس وحمص، وحين تقع عينه على «طفل بمخاط وملابس رثة (...) وولد يردّ على توكي واكي (...) وقطط تركت خطاها في الأسمنت الرطب على الجدران»، حين يعبِّر بجملة عن تلك الحدود الأسطورية التي لا يمكن أن يدرك كنهها إلا مَن عَبَرَها مراراً وتكراراً، حدود سوريا ولبنان، بين طرابلس وحمص «الحدود هي مفهوم في العمق، وليست خطاً». إنه روائي حين يحكي عن المجرد والمحسوس، «الآمن وغير الآمن»، وحين لا تكون لدينا فكرة حقيقية عن الأشياء فنصدق في فترات الهدوء ما يقال. كل شيء يبقى مجرداً حتى حين يطلق الآخرون النار باتجاهك، إنما في اللحظة التي يحصل فيها الارتطام، يغدو الشيء آنذاك محسوساً بشكل نهائي». إنه روائي في التقاطه التفاصيل، في دقة ملاحظاته التي يسجلها بين معركة وأخرى، بين شقة وأخرى، في حديثه عن هذا «التأقلم» مع الحرب اليومية، حيث «ثمة أناس تُحتضَر وتموت وتعاني، وثمة نقاش في مكان ما». يحكي ليتل عن الشخصيات التي يقابلها، فنتخيلها ونعيش معها، يصف الأماكن، وخلال عبوره من مكان الى آخر لا ينسى ملاحظة هذا الشاب، الذي جعل من سلَّم حديدي عادي سنداً لسلاحه، وهذا الكرسي المذهب موديل لويس 16، الذي يتمركز أمام فجوة في جدار أصابته قذيفة، وإمام الجامع الذي يؤذن وكأن «شيئاً لم يكن!»، وهذا الصغير الذي يتمشى بهدوء على أرصفة قريبة من شوارع معرّضة للقصف والقنص... يحكي العادي الذي يمسي لذة خالصة، كالحمَّام الساخن والشاي الحارق وانتظار وصول الصْفِيحة واللبن وتناول وجبة أعدتها أم فادي من الفطائر المحشوة باللحمة والجبنة... إنه يُشعر قارئَه بهؤلاء الذين صادفهم، ينقل صورة شديدة الصدق، تحس بهؤلاء الشباب الثوار حين يحدثك عن «مرحهم الدائم وابتساماتهم، تضامنهم، لباقتهم ولطفهم واهتمامهم بالآخرين...»، ويشير إلى التقاليد الاجتماعية التي تمنع الناس من الحديث عن الفتيات اللواتي اغتصبن «العار كبير جداً» هنا. ينقل «لحظات الملل» التي تحط بين معركة وأخرى، «تدخين وثرثرة» و «الكثير من الصبر والملل قبل ساعات قليلة حافلة تنتهي أحياناً بجروح او بموت». ينقل يوميات المقاتل: «نوم، أكل، تنظيف السلاح، الحراسة والقتال من وقت الى آخر». لكن كل ما سبق «تفاصيل» عابرة ربما، أمام الحدث، وأحاديث الناس عن «دولة القانون» التي يحلمون بها، عن «شدة القمع التي تقود إلى صراع طائفي»، وعن الذين «هم جزء من المجتمع السوري»، مع استدراك «من ساهم سيحاكم»، وعن كذب قناة «الدنيا»: «بريء مقتول برصاص الأمن أعلنوا قتله على يد عصابات مسلحة»... إنها القصص التي سمعها ليتل من رواتها وسجلها يوماً بيوم، وما سرده أناس مازالت آثار التعذيب الرهيبة على اجسادهم. اما التعذيب الذي «تطورت» طرقه مقارنة بما كانت قبل الثورة، اذ كلما حضر محقق جديد استجواب جديد، ففصّل بعض وسائله (طريقة «الشبح» مثلاً)، وعرَّفنا على دور طبيب الاستخبارات: «الحفاظ على حياة المعذَّبين أطول فترة ممكنة»، كما شرح له واحد منهم هو منشق. يلتقي الكاتب بمنشقين لم يعلنوا انشقاقهم، ويعرّف بتنظيم الجيش الحر، المكون من منشقين وبعض المدنيين. ويحكي له منشقون عن دوافعهم، كالملازم فادي القادم من جبلاية، والذي انتسب الى الجيش الحر في حمص لأنه رأى الجيش يقتل مدنيين، وشهد مقتل زميل له «سني برصاصة في الظهر لرفضه إطلاق النار وقتل المدنيين». لا ينفي ليتل «غموض» بعض القصص وعدم التأكد من مصادرها، ولا يتوانى عن سرد الشجار العنيف أحياناً مع مسؤول أحد المستشفيات الميدانية في بابا عمرو تدخَّلَ في عمله وعمل المصور، وعن مضايقة مسؤول آخَر من المكتب الإعلامي للثورة إياهما. ثمة تغير في التعامل مع وسائل الإعلام بعد سنة من الثورة «خشية استخدام النظام الصور في تدعيم ادعاءاته»، وثمة حذر تجاه الصحافيين الأجانب «خشية تحريف الأقوال». يعترف جوناثان ليتل في صفحته الأخيرة بشعوره «بالخجل» عند إعادته قراءة بعض المقاطع التي ضمها كتابه، لا سيما منها المتعلقة «بالمشاجرات السخيفة» مع بعض نشطاء بابا عمرو، «يخجل» ليس فقط بسبب ملاحظة عجوز حمصي: «يجب تفهمهم يا سيدي، أربعون عاماً من الخوف. قبل قتل بشار يجب أن يقتلوا بشار في رؤوسهم»، بل بسبب الأحداث اللاحقة، بعد أن تبين له «التصرف البطولي لبعض هؤلاء الأشخاص المتشاجَر معهم، والذين يدين لهم بعض الصحافيين الغربيين بحياتهم». لكنه ترك تلك الأحداث في الأوراق لأنها حصلت، ولأنه قرر عدم تطبيق الرقابة الذاتية عليها. يأسف ليتل أيضاً لأن السوريين «تُركوا لمصيرهم»، رغم أن كل ما يجري في سورية من عنف دِينَ بشدة، لكن «هذا لم يمنع أنهم تركوه يحدث»، فهل حقاً «لا خيار» لهم؟ يتساءل في الخاتمة.