دمشق – معن عاقل سيدة حمصية: ذبحونا بالسكاكين وقصفوا منازلنا بالصواريخ الجيش الحر يؤمِّن الفارّين.. والجانب الأردني يتعامل معهم بمرونة نازحون: لن نعود إلى سوريا إلا بعد سقوط النظام لا أعرف كيف أصف السوريين الذين توجهوا إلى الأردن، لاجئون أم نازحون؟ الحقيقة أنني مهتم بالتسمية لأنني أصبحت واحداً منهم. الخميس 12 إبريل ودّعت ابني الوحيد نوار (الذي لم يبلغ بعد الرابعة من العمر) عند جسر صحنايا جنوبدمشق برفقة بعض الشباب الناشطين، كانت الساعة الثانية بعد الظهر، وفوجئ الصغير أن والده لم يأتِ هذه المرة كعادته ليصطحبه في نزهة، كان الأمر مختلفاً هذه المرة، كلانا كان يبحث عن تسمية لهذه اللحظة العابثة. حاولت ألا أطيل تلك اللحظات، تهربت بمهارة من مطالباته بتنفيذ وعد سابق باصطحابه إلى التاون سنتر (مركز تسوق)، قاطعاً وعداً جديداً عَرفَ الصغير بفطرته أنه هش أكثر من وعود النظام لشعبه وللمجتمع الدولي، وأنني قد لا أفي به أبداً، ركبت السيارة وتحاشيت النظر إلى الخلف، متشاغلاً بحديث عابث مع شخص لا أعرفه، ولم تكد تمضي لحظات حتى اختفت تلك الحالة المريرة، حالة الوداع، واختفى نوار، لكن إلى حين. النزوح إلى الأردن طريق الهجرة إلى الجنوب كان رتيباً، انشغل السائق بإجراء اتصالات والرد على أخرى، واستفاض في شرح كيفية تجنب الحواجز الأمنية، وحجم المخاطر التي تعرض لها خلال رحلاته المنتظمة بين دمشق ودرعا، بينما كانت عيناي تشربان سهل حوران في هذا اليوم الربيعي حتى الثمالة. شرودي اختصر الزمن، وألفيت نفسي في إحدى القرى الحدودية أحتسي القهوة مع أشخاص نقاشهم الوحيد يتمحور حول كيفية تأمين السلاح والذخيرة، وحول أسعارهما، كأنهم حسموا أمرهم: هذا النظام لا يسقط إلا بقوة السلاح. لم أشأ مناقشتهم في بديهياتهم، وانتقلنا إلى قرية أخرى على الحدود مباشرة، أشبه بمكان تجمع لأناس لم أحسم بعد أمر تسميتهم، عبارة عن منزلين متجاورين، الأول يأوي الرجال، والآخر العائلات والأطفال. كان العدد ينوف على المائة، ويبدو أن شعورهم بالأمان النسبي بعد أهوال الوصول إلى هذه النقطة الفاصلة، أيقظ شيئاً من ذكرياتهم المؤلمة، البعض حاول الانزواء، خصوصاً الرجال المسنين. شهادات أما الشباب فانشغلوا بنكات الثورة الحمصية، وبعض النسوة يحاولن مداراة دموع خجولة تنذرف قسراً بعد لحظات شرود.سألت إحداهنّ، لماذا تبكين؟ قالت «ماذا تريدني أن أفعل، أنا من جوبر المتاخمة لبابا عمرو، وأهلي من بابا عمرو، وجميعنا تشردنا، لا أعرف أين أخي وزوجته وأطفاله، أمي وأبي عاجزان، ولا أعرف أين زوجي، ومعي أربعة أولاد». عادت السيدة لمداراة دموعها عندما طلبت منها أن تروي ما حدث في بابا عمرو، فردت «خرجنا من بابا عمرو بعد قصفها بفترة، جاؤوا بباصات كبيرة، سبعة باصات، حملوها بالناس، وأخذوهم إلى التحويلة، وهناك ذبحوهم، ذبحهم الأمن والجيش والعصابات، وأيضاً ذبحوا الناس بالسكاكين في البساتين، وقصفونا براجمات الصواريخ من عيصون والوعر والشبابية ومن كل مكان». وتكمل «هاجمتنا قرى موالية للنظام وسرقت ونهبت بيوتنا، مثل المزرعة وغيرها، مع أننا جيران ولا يفصل بيننا إلا الأوتوستراد»، أخذت ابنتها الصغيرة تمسح دموعها وهي تستمع لحديث أمها، فسألتها «وأنت لماذا تبكين؟». ردّت الصغيرة «قصفونا بالصواريخ، أنا رأيتهم وسمعتهم، المدارس لم تفتح عندنا، احتلها الجيش، أوصلنا الله إلى هنا، ولا أعرف أين نذهب، لم أعد أستطيع العودة إلى هناك حتى يسقط هذا الكلب». عجوز أخرى كانت تعبر عن تفاؤلها في هذا الجو الكارثي بابتسامات مستمرة تنم عن الجلد والعزيمة، كأنها مزهوة بعيشها لحظات حرية معدودة ولو مقابل ثمن باهظ، كأنها تحدت حياتها لتقطف منها في النهاية إكسيراً سحرياً لزمن مقبل. تقول «أنا من باب السباع، وجئت إلى هنا هرباً من القصف والذبح، هرباً من بشار وجيشه وأمنه وشبيحته، ما حدث في باب السباع هو ذبح واغتصاب، يدخلون من دار إلى دار، يرغمون النساء على التحدث إلى الإعلام عن وجود عصابات مسلحة، ومن ترفض يذبحونها ويعرونها ويلقونها في الشارع، أنا رأيت ذلك بعيني، والله يستر على ما رأيناه، هناك رجل بقي لحراسة منزله، فذبحوه من الوريد إلى الوريد، وبقي 15 يوماً ملقى في منزله حتى جاء الناس وأخرجت جثته». وتضيف «القصف على منازلنا كان بالهاون والدبابات، تلك الحديثة التي تبعج أربعين حائطاً، وأيضاً بالطائرات والصواريخ والقناصة، الكثير من أقربائي قُتلوا، واضطررنا لهدم الجدران والهرب منها، وجاء أناس سرقوا بيوتنا، لم يتركوا فيها أثاثاً، وبعضهم سكن فيها، اذهب الآن إلى حيِّنا، لن تجد دوراً، هدموها، ألم يقل إنه سيعملها بطاطا، عملها بطاطا، وسيزرعها بطاطا، لم يترك لنا شيئاً». تكمل العجوز «لن أعود إلى باب السباع إلا بالنصر، النصر الكبير، وإذا كان بشار يريد الكرسي، دعوه يأخذها ويحل عن سمانا، إسرائيل أحسن منه، لأنه ما طلع رئيس، هذا ظالم وجزار، لا يهمه جيشه ولا شعبه، همه الكرسي، لا يخاف الله، وضعه جانباً ومشى».روح السخرية الحمصية مغروسة في شاب من أبناء حي بابا عمرو، راح يرد على أسئلتي بتهكم لا نظير له، كأنني أسأل في البديهيات، بجيب الشاب متهكماً «لماذا أنا ذاهب إلى الأردن؟ العصابات المسلحة أحرقت بيتنا، العصابات المسلحة قصفتنا بالطائرات والصواريخ والدبابات والمدافع، خرجت من بابا عمرو منذ خمسة أيام، ولو لم أفعل لذبحوني أنا وزوجتي وأولادي».وعن شهادته عما جرى في بابا عمرو يقول «ماذا حدث في بابا عمرو؟ لا شيء، ذبحوا الناس وسرقوا البيوت، والحمد الله أنا ما ظل عندي بيت ليسرقوه، لأن العصابات المسلحة قصفته بالصواريخ، وبعد ما جلا أهل بابا عمرو، جاء سيادة الرئيس لزيارتنا والسلام علينا، لكنه لم يجد أحداً منا فسلم على جيشه وعلى سكان جدد لا ندري من أين جاؤوا بهم، أنا ولدت وتربيت فيها وأعرف كل سكانها وكنت من آخر الخارجين منها، لم أشاهدهم من قبل أبداً». أوضاع النازحين المسؤول عن استقبال هذه العائلات وترحيلها إلى الأردن أكد لنا أن الأعداد التي تصلهم يومياً متفاوتة، وتتراوح بين المائة شخص وال500، وأنهم يغطون التكاليف من التبرعات، سيما تبرعات المغتربين، وأن المجلس الوطني لم يقدم لهم ولا ليرة واحدة، لا هو ولا غيره من منظمات الإغاثة، وأن الجيش الحر يساعدهم في إيصال هؤلاء إلى الطرف الأردني وتأمين الحماية لهم، مشيراً أن الجانب الأردني يتعاطى مع الأمر بأريحية، ويستقبل الناس بلطف، ويؤمن علاجاً للجرحى في أرقى المشافي وبالمجان. وأضاف المشرف أن الأجهزة الأمنية السورية تضيّق على النازحين من حمص وتمنعهم من الوصول إلى درعا، وتحدث عن اختفاء حافلتين واحدة كانت تقل 14 راكباً والأخرى ثلاثين راكباً، منوهاً أن قوات الأمن أطلقت النار على النازحين أثناء اجتيازهم الحدود، وتصدى لها الجيش الحر، كما رد الجيش الأردني على إطلاق النار داخل حدوده، وأسفر ذلك عن جرح طفل وطفلة. المسير نحو الحدود الأردنية كان عند الغروب، أقلتنا السيارات عبر طرق وعرة إلى أقرب نقطة، طلبت منا عناصر الجيش الحر عدم إشعال أي ضوء، وعدم إصدار أصوات مرتفعة، وطمأنوا الجميع أن الطريق آمن وأنهم يسيطرون على التلال المحيطة.في الطريق حاول الشباب أن يحملوا حقيبتي، رفضت، وخلال رحلة يتخللها بكاء أطفال ولهاث سيدات مسنات، وتعثر رجال مسنين بوعورة الحقول، تخلفت عن القافلة سيدة تسند ابنها المعاق، اضطررت لتسليم حقيبتي عندئذ لرجل مسنّ، كان الشباب قد تجاوزونا بمسافات، ورحت بدوري ألهث تحت وطأة الثقل والوعورة، بينما السيدة تدعو لي ولأبنائي بالحماية. بعد يومين، تحدثت إلى نوار هاتفياً فسألني «بابا متى ستأتي لتأخذني إلى التاون سنتر؟» أجبته «بابا هذه المرة أنت من سيأتي ليأخذني، وسرعان ما صدح بضحكة عميقة»، ليطرح أصدق سؤال «شو يعني، أنا صرت كبيراً وأنت صرت صغيراً؟».أجل، يا نوار، في ظل الاستبداد والحرب عليه أنت الكبير وأنا الصغير، ونحن اليوم لسنا لاجئين ولا نازحين، نحن ببساطة مشردين. كتائب الأسد تنصب كميناً للمتجهين إلى الأردن وتعتقل ثلاثين منهم وقع لاجئون سوريون على الحدود الأردنية في كمين نصبه لهم حرس الحدود السوري، مما أدى إلى سقوط نحو ستة جرحى واعتقال نحو ثلاثين آخرين، حسبما أفاد ناجون من الكمين ل»الشرق»، مؤكدين أن إطلاق النار عليهم حدث داخل الأراضي الأردنية بعد أن تجاوزوا الطريق الإسفلتي الحدودي عند بلدة نصيب، بينما ذكرت مصادر في درعا أن إضراباً عاماً سيبدأ غداً احتجاجاً على الحادث.ويتهم ناشطون سوريون قناة الجزيرة بارتكاب أخطاء بعد أن بثّت تقريراً عن اللاجئين السوريين إلى الأردن، وعدّته أحد مظاهر تصدير الأزمة السورية إلى الحكومة الأردنية، ويرى الناشطون أن هذه المعالجة الإعلامية دفعت السلطات السورية لمتابعة هذا الملف، وهو ما أضرّهم. طفلة اضطرت عائلتها للنزوح من حمص إلى الأردن
أسرة تنتظر في تجمع حدودي قبل الدخول إلى الأردن (الشرق)