البرلمان المصري بين الحل الذي قرره القضاء والتفعيل الذي قرره الرئيس، يذكّر بمشهدين مصريين يتشابهان. بدأ الأول في صباح 23 تموز (يوليو) 1952 والثاني مساء 11 شباط (فبراير) 2011، والمشهدان يتميزان ببروز قوتين، هما «مجلس قيادة الثورة» و «جماعة الإخوان المسلمين» في 1952 و «المجلس الأعلى للقوات المسلحة» و «جماعة الإخوان المسلمين» في 2011. في المشهد الأول الذي انتهى عملياً في يوم 11 شباط 2011، وليس في يوم وفاة الرئيس عبدالناصر في 28 أيلول (سبتمبر) 1970، كان الصراع بين العسكر (أو المؤسسة العسكرية التي ظلت الركيزة الأقوى للسلطة في العهود الثلاثة المصرية لناصر والسادات ومبارك) والإسلاميين، هو المحدِد للمشهد المصري الداخلي وربما أبعد من ذلك، ويبدو، من مجريات الستة عشر شهراً ونيفاً من بدء المشهد الثاني، أن الأحوال المصرية لن تخرج عما جرى بين 23 تموز 1952 و11 شباط 2011 من حيث تداعيات اصطدام هذين القطارين على السكة المصرية. أدت المساكنة بين «الضباط الأحرار» و «الإخوان»، البادئة قبل يوم 23 تموز 1952 ثم بعدها، إلى استثناء الجماعة من مرسوم حل الأحزاب الصادر في 16 كانون الثاني (يناير) 1953، وحتى عندما صدر قرار حل الجماعة في 15 كانون الثاني 1954، في ذروة الصراع بين محمد نجيب وعبدالناصر، فإن قرار العودة عنه في 26 آذار (مارس)، عقب لقاء عبدالناصر ومرشد الجماعة حسن الهضيبي بعد الإفراج عن الأخير من السجن، قد تضمن ضمنياً انفكاك «الإخوان» عن «الجبهة المتحدة» الداعمة لنجيب والتي ضمتهم مع الوفديين والشيوعيين. لم يدم ذلك طويلاً، ليعود الخلاف مستعراً مع توقيع اتفاقية الجلاء عن القناة بالأحرف الأولى في يوم 27 تموز بين عبدالناصر والوزير البريطاني أنطوني ناتنغ، وليكون تصديقها في 19 تشرين الأول (أكتوبر) متبوعاً بعد أسبوع بانفجار المواجهة بينهما إثر «حادثة المنصة» التي حاول فيها أحد أعضاء «الجهاز الخاص» في الجماعة اغتيال عبدالناصر. كانت الاتفاقية المصرية - البريطانية حلبة لانفجار الصراع بينهما، وليست موضوعاً له، الذي كان واضحاً أنه السلطة في القاهرة: يعزو سيد قطب، في نص كتبه في السجن قبيل قليل من إعدامه فجر 29 آب (أغسطس) 1966 تحت عنوان: «لماذا أعدموني؟»، إلى الأميركيين عملية «إشعال الخلاف بين الثورة والإخوان». مع نشوء حلف بغداد بين شباط ونيسان 1955 خرج عبدالناصر من الطوق البريطاني، الذي أريد منه كثمن لاتفاقية الجلاء (التي كان من ضمن مترتباتها منذ بدايات المحادثات حولها موافقة القاهرة على انفصال السودان في اتفاقية 12 شباط 1953) الدخول المصري في المشاريع الغربية العسكرية ضد السوفيات وجعل المنطقة امتداداً «ما» للناتو، وهذا ما أدى إلى صدام بريطاني - مصري كانت ذروته تأميم عبدالناصر شركة قناة السويس في 26 تموز 1956 وما ترتب عليه من حرب 1956 بعد ثلاثة أشهر، ومن ثم بعد شهر عسل أميركي - مصري، استغرق 1958 - 1963 ترافق مع صدام عبدالناصر والشيوعيين وموسكو في دمشق 1958 - 1959 وبغداد 1959، دخول عبدالناصر والأميركيين في صدام كانت أحد تداعياته بالوكالة حرب 1967. داخل الحرب الباردة لم يكن «الإخوان» خارج تداعيات «الحرب الباردة العربية» في الستينات التي كانت صنعاء مسرحها الأساسي، ولا تلك الدولية بين موسكووواشنطن التي كان أحد تجلياتها هو ما جرى صباح 5 حزيران (يونيو) 1967. لم ينفع تقارب الرئيس المصري الجديد أنور السادات مع «الإخوان» وإخراجهم من السجن، بعد شهر من تصفية يساريي سلطته في 15 أيار (مايو) 1971، في إرساء تعاون لم تتعد حدوده استخدام السلطة لهم لتحجيم نفوذ الناصريين والشيوعيين، واستخدام «الإخوان» فترة سماح السلطة من أجل إعادة بناء ركائز الجماعة من جديد. عاد التوتر من جديد عام 1978 مع رفض الجماعة اتفاقيات كامب دافيد. وقد كان اغتيال الرئيس السادات بأيدي إسلاميين في «حادثة المنصة» في 6 تشرين الأول 1981 ذروة درامية لهذا المناخ من الصدام الذي شمل السلطة ومجموع الإسلاميين المصريين، وهو ما عاد مع الرئيس حسني مبارك بعد مساكنة استمرت حتى 1990، وكانت تقاربات 2005، التي أدت إلى نيل «الإخوان» ربع مقاعد البرلمان المصري يومها، ناتجة عن بداية المحادثات السرية بين الجماعة وواشنطن (كان أحد تجسداتها أيضاً بدء دخول الحزب الإسلامي العراقي في «العملية السياسية»)، وكذلك ناتجة عن طموح مبارك إلى رمي طعم «التوريث» لكي يعض «الإخوان» عليه مقابل «مساحات» في الساحة المحلية، ولتكون تلك التقاربات قصيرة الأجل أيضاً مثلها مثل التي كانت بين الجماعة والعسكر خلال 1952 - 1954 ثم مع السادات بين عامي 1971 و1978. أتى تشكل مشهد 11 شباط 2011 أولاً من اجتماع قوتين «الإخوان والعسكر» في نقطة واحدة هي إزاحة رأس السلطة المصرية، بعد أن أعطت الجماعة لتحرك الثلثاء 25 كانون الثاني طابعاً مليونياً في جمعة 28 كانون الثاني ومن ثم أعلنت المؤسسة العسكرية حيادها مساء الإثنين التالي، قبل أن تبدأ عشرة أيام مصرية ترددت فيها واشنطن باتجاه الضغط لتنحي الرئيس المصري. كان اجتماع هذه العوامل الثلاثة هو المؤدي إلى تنحي مبارك عند مغرب 11 شباط 2011، وعملياً كاد تردد واشنطن أن يقود «الإخوان» إلى اتفاق «ما» مع نائب الرئيس عمر سليمان، قبل أن يثبت عند الأطراف المعنية أخطار تكرار تجربة شاهبور بختيار قبيل مشهد طهران 11 شباط 1979. كان أول تجسدات هذه الثلاثية، بين «المجلس الأعلى للقوات المسلحة» و «جماعة الإخوان المسلمين» وواشنطن، هو الإعلان الدستوري الصادر في 30 آذار 2011 بعد استفتاء شعبي، ثم في نشوء تناغمات أوحت بتكرار مصري للتجربة التركية بين العسكر والإسلاميين برعاية واشنطن. استمر هذا إلى قبل أربعة أسابيع من الانتخابات البرلمانية في 28 شباط حين طرح نائب رئيس الوزراء المصري علي السلمي «وثيقة للمبادئ ما فوق دستورية» قالت مادتها التاسعة المقترحة بأنه «يختص المجلس الأعلى للقوات المسلحة دون غيره بالنظر في كل ما يتعلق بالشؤون الخاصة بالقوات المسلحة ومناقشة بنود موازنتها على أن يتم إدراجها رقماً واحداً في موازنة الدولة، كما يختص دون غيره بالموافقة على أي تشريع يتعلق بالقوات المسلحة قبل إصداره»، كما دعت الوثيقة إلى إنشاء «مجلس الدفاع الوطني» الذي من الواضح أنه يستلهم نظيره التركي، كما قالت الوثيقة بإعطاء «المجلس الأعلى» سلطة «إعادة النظر» في نصوص مشروع الدستور الذي كان مفترضاً أن تصوغه الجمعية التأسيسية التي كان مفترضاً انبثاقها عن البرلمان المزمع انتخابه «فإذا لم توافق الجمعية كان للمجلس أن يعرض الأمر على المحكمة الدستورية العليا». «وثيقة السلمي» رفضتها القوى السياسية المصرية، التي كانت تستعد للدخول في العملية الانتخابية. خلال شهرين فشل البرلمان المنتخب في إيجاد جمعية تأسيسية للدستور متفق عليها بين الإسلاميين وغيرهم، ليأتي قرار حلها في 10 نيسان بقرار محكمة القضاء الإداري. ويوم الخميس 14 حزيران قضت المحكمة الدستورية ببطلان ثلث أعضاء البرلمان المنتخب ما عنى حله عملياً. في 17 حزيران، وعشية ساعات من انتهاء الجولة الثانية لانتخابات الرئاسة، أتى «إعلان دستوري مكمل» من «المجلس العسكري الأعلى»، الذي يتولى منذ مساء 11 شباط 2011 صلاحيات رئيس الجمهورية، يأخذ كل ما ورد في «وثيقة السلمي»، قبل أن يكمل الأمر لاحقاً بتشكيل «مجلس الدفاع الوطني»، في خطوات من الواضح أنها تسلب من الرئيس المصري الكثير من صلاحياته لمصلحة المؤسسة العسكرية. رغبة عارمة بالسلطة في مرحلة ما بعد 17 حزيران لم يكن المشهد مثل تشرين الثاني الماضي: العسكر في حالة هجومية، جماعة الإخوان انفضّ عنها الكثير من الذين كانوا معها من الأحزاب والقوى السياسية والاجتماعية، بعد أن أظهرت، منذ فوزها مع السلفيين بثلثي مقاعد البرلمان، أن شهيتها كبيرة للسلطة، في انتخابات الرئاسة التي قالت سابقاً إنها لن ترشح لها أحداً من أعضائها قبل أن ترشح اثنين، واحداً أساسياً والثاني كاحتياط، ثم عند قيامها بتعبئة مقاعد الجمعية التأسيسية للدستور بغالبية إسلامية، مستغلة لحظة انتخابية تفرق كثيراً في توليد جسم تشريعي عن جسم تأسيسي لدستور هو أبعد مدى مما يحكم عملية انتخابية هي الأولى بعد ستين عاماً من غياب الديموقراطية، ويبدو أن هذه الشهية أتت من سيطرة جناحين في الجماعة: من تمكنوا من السيطرة مع المرشد السابق للجماعة مصطفى مشهور (1996 - 2002)، الآتي من «الجهاز الخاص»، وجناح «القطبيين» الذين أتوا من (تنظيم 1965) بقيادة سيد قطب، بزعامة الدكتور محمود عزت السكرتير العام للجماعة - قاما بانقلاب عبر انتخابات مجلس شورى الجماعة في كانون الأول 2009، أتى بالدكتور محمد بديع مرشداً عاماً للجماعة، وهو أيضاً من «تنظيم 1965»، وأبعدت رموز «التيار الإصلاحي» مثل نائب المرشد الدكتور محمد حبيب وعضو مكتب الإرشاد عبدالمنعم أبو الفتوح، وقد وضح من اجتماع «مجلس شورى الجماعة»، أثناء ترشيح خيرت الشاطر ومحمد مرسي (كاحتياطي) للرئاسة، مدى قوة هؤلاء في قيادة الجماعة، ووعيهم لقرارات ستؤدي لصدامهم مع المؤسسة العسكرية، ولانفضاض دائرة تحالفات سياسية – اجتماعية - ثقافية لن تكون متوافرة بنتيجة هذا التوجه الجديد للجماعة كما كانت في تشرين الثاني 2011 عند إفشال «وثيقة السلمي». في 17 حزيران اصطدم قطارا العسكر و«الإخوان»، بإشراف واشنطن، التي من الواضح في عام 2012 أن تشجيعها لتعميم النموذج التركي الأردوغاني في العالم العربي، بالذات في القاهرةودمشق، لم يعد كما كان في عام 2011، وربما لأسباب تتعلق بإسرائيل: انقلاب أبيض قامت به المؤسسة العسكرية شبيه بانقلاب 11 كانون الثاني 1992 الذي قام به عسكر الجزائر وألغى الجولة الثانية من الانتخابات البرلمانية المقررة في 16 كانون الثاني بعد فوز الإسلاميين الكاسح بالجولة الأولى وما قاد إليه ذلك من انفجار حرب أهلية جزائرية دامت عشر سنوات، والانقلاب الأبيض الذي قامت به المؤسسة العسكرية التركية في 28 شباط 1997 ضد رئيس الوزراء نجم الدين أربكان. إعلان فوز المرشح الإخواني الدكتور محمد مرسي في انتخابات الرئاسة المصرية في 24 حزيران يأتي تحت سقف ما جرى في 17 حزيران. تهنئة المشير حسين طنطاوي، ثم الإدارة الأميركية مرسي، تأتيان ضمن هذا السياق: محاولات تهدئة من العسكر المصريين، بالتعاون مع واشنطن، لتفادي السيناريو الجزائري في مصر. في المقابل، هناك مراهنة عند إسلاميي مصر، مع ركونهم بالقبول بما جرى في 17 حزيران مقابل وصول مرشحهم للقصر الرئاسي، بأن ما فعله أردوغان من تحجيم للعسكر، في عام 2011 بعد تسع سنوات من وصول حزبه لرئاسة الوزراء، يمكن أن يكرر في القاهرة بعد تعايش صعب مع مؤسسة عسكرية واضح أنها تريد مما فعلته في 17 حزيران 2012 الحكم من وراء الستار بعد تحجيم مؤسسة الرئاسة، وأن تمسك وتحدد سقوف اللعبة، بعد تحكمها المتوقع أيضاً بعملية صوغ الدستور وبانتخابات البرلمان، في حلبة مصرية مقبلة سيتصارع فيها العسكر والإسلاميون الذين أصبحوا في عام 2012، بعد مساكنة قصيرة في 2011 مع «المجلس الأعلى للقوات المسلحة»، يطرقون بعنف باب السلطة المصرية. * كاتب سوري