دخلت مصر مرحلة جديدة من الغموض وعدم الاستقرار، أهم ما يميزها العودة لنقطة البداية في الفترة الانتقالية، التي كان يفترض الانتهاء منها نهاية الشهر الجاري، بعودة الجيش إلى ثكناته، وتسليم السلطة لرئيس منتخب، لكن الجيش لن يعود، بل إن دوره يتضخم حتى لو أعلن غير ذلك! مع حلِّ المحكمة الدستورية للبرلمان ذي الغالبية الإسلامية، ومشاكل تأسيسية الدستور، عادت السلطة التشريعية للعسكر، وبدأت مصر فترة انتقالية ثانية غامضة لا يعرف أحد متى تنتهي، والمفارقة أنها تجري في ظل وجود رئيس منتخب سيكون على الأرجح من «الإخوان»، وإعلان دستوري مكمل أصدره المجلس العسكري ليقلص صلاحيات الرئيس، ويقنن ولأول مرة في تاريخ مصر انفصال الجيش عن مؤسسة الرئاسة، وتحوله إلى سلطة رابعة، لا تخضع لأي رقابة، بل وحقه في الاعتراض على لجنة كتابة الدستور والمواد التي تقترحها. المشهد في مصر بالغ التعقيد والتشابك، والتطورات متلاحقة وليسمح لي القارئ أن أشاركه بعض الملاحظات لعلها تفيد في محاولة تفكيك هذا المشهد المأسوي والوقوف على تفاصيله والعوامل المؤثرة فيه: 1- كان لارتباك وضعف الأداء السياسي والتنظيمي للقوى المدنية وشباب الثورة تأثيره الكبير في زيادة الدور السياسي للقوى الإسلامية والعسكر، وقد تحالف الطرفان لتمرير الاستفتاء على تعديلات الدستور وإصدار الإعلان الدستوري وفرض الانتخابات البرلمانية قبل الدستور، والتي فاز بها الإسلاميون، ولكن قرار «الإخوان» خوض معركة الرئاسة أدَّى إلى غضب العسكر ونهاية شهر العسل الذي جمعهما على حساب بقية القوى، بل وعلى حساب سلامة إجراءات المرحلة الانتقالية، فقد أدركت الدولة العميقة بقيادة الجيش ورجال الأعمال وما تبقى من الحزب الوطني خطر هيمنة «الإخوان» على سلطات الدولة، وترفض القوى المدنية وشباب الثورة تلك الهيمنة، إلا أنها ظلت في معظمها بعيدة من العسكر ورموز النظام القديم الذي تجمع حول المرشح أحمد شفيق. 2 - أدى فوز «الإخوان» بالبرلمان إلى تحول كبير في استراتيجيتهم من المشاركة إلى المغالبة، والسعي الجامح وغير المتعقل للسلطة والانفراد بالقرار في تشكيل تأسيسية الدستور، ما عمق من أزمة الثقة بينهم وبين العسكر من جهة، وبينهم وبين القوى المدنية وشباب الثورة من جهة ثانية. وخسر «الإخوان» كثيراً من رأسمالهم الرمزي وسمعتهم الطيبة بين الناخبين نتيجة الأداء المتواضع والمتعثر للبرلمان، والذي عكس نقصاً في الخبرة والقدرة على استخدام الآلة التشريعية لحماية الثورة وتحقيق أهدافها، ولعب الإعلام دوراً مهماً في اغتيال صورة الإسلاميين وتضخيم أخطاء البرلمان وسلوكيات بعض نوابه. 3 - خلال الأشهر الماضية بلغت الأزمة في مصر مرحلة الانفجار، وتوقع الكثيرون حدوث انقلاب عسكري نتيجة توتر العلاقة بين البرلمان وحكومة الجنزوري والعسكر، وتعثر كتابة الدستور، وفوضى وارتباك إجراءات الترشح للرئاسة، والأهم تفاقم المشكلات الاقتصادية والاجتماعية في ظل ثورة تطلعات مشروعة وحراك سياسي، لكن الانقلاب لم يحدث، فعسكر الطنطاوي غير عسكر عبدالناصر 1954، فالزمن مختلف والظروف أيضاً، كذلك فإن «الإخوان» والقوى الإسلامية عجزت عن فرض إرادتها، كما أن قوى الثورة لم تنجح في حسم الأمور على الأرض لصالحها، وهكذا تعايشت الأطراف الثلاثة: «الإخوان» والعسكر وشباب الثورة، مع الأزمة بكل تناقضاتها، إلى أن جاء حكم المحكمة الدستورية العليا بحل البرلمان وعدم دستورية قانوني الانتخابات والعزل والذي كان يفترض أن يحرم شفيق من خوض معركة الرئاسة. 4- يمكن القول إن حكم الدستورية هو انقلاب ناعم دبره العسكر استناداً إلى القانون وإجراءات التقاضي الطبيعي، إلا أن سرعة البت في القضية تؤكد الطابع السياسي للأحكام، والتي بمقتضاها عادت سلطة التشريع للمجلس العسكري قبل أيام قليلة من تسليمه السلطة التنفيذية للرئيس المنتخب. لكنها عودة قلقة ومثيرة وربما تفتح الطريق لتوحيد صفوف «الإخوان» وشباب الثورة والقوى المدنية ضد العسكر، لأن حل البرلمان قضى على الكيان السياسي الوحيد المنتخب، وصاحب الشرعية، ومنح سلطة التشريع للمجلس العسكري غير المنتخب والذي يفتقر إلى الشرعية والمشروعية، فالمجلس حاز كل السلطتين التشريعية والتنفيذية بقوة الأمر الواقع واستناداً إلى الشرعية الثورية التي وقف إلى جانبها ضد مبارك في شباط (فبراير) 2011، لكن شرعية المجلس تبخرت نتيجة الأخطاء الهائلة التي ارتكبها خلال المرحلة الانتقالية، والتي أدت إلى حصار الثورة والثوار، والإبقاء على دولة مبارك. من هنا ظهر المجلس العسكري في صورة الطامح للسلطة والراغب في الاستمرار في العمل السياسي. 5- إذا تأكد فوز مرشح «الإخوان» محمد مرسي فسيكون بمثابة رد قوي على الانقلاب الناعم للعسكر، بل إن هذا الفوز سيحوله إلى مجرد نصف انقلاب! وإذا كان فوز مرسي قد شكل مفاجأة للعسكر، لكنه أكد احترامهم للصندوق وحرصهم على عدم التدخل في نزاهة الانتخابات، وكان المجلس العسكري قد استبق إعلان نتيجة السباق الرئاسي بإصدار إعلان دستوري مكمل قلص فيه صلاحيات الرئيس، ومنح لنفسه كثيراً من السلطات، جعلت منه وصياً على كتابة الدستور، ما أكد التوجه العام نحو عسكرة الدولة، فالمجلس العسكري يحوز القوة الفعلية على الأرض، وسيظل في الحكم حتى كتابة دستور وانتخاب برلمان جديد، ولا شك في أن احتكار كل السلطات وعدم الفصل بينها يعرقل عملية التحول الديموقراطي ويؤزم الساحة السياسية، ويؤكد أن بدايات المرحلة الانتقالية الجديدة قد لا تكون صحيحة. 6- يبدو أن مصر بعد الثورة، وليست مصر الثورة، على موعد مع رئيس ينتمي ل «الإخوان»، ومجلس عسكري يمثل الدولة، ما يعني أن ثنائية الدولة و «الإخوان» مستمرة، والصدامات الدموية والصفقات المريبة مستمرة أيضاً! الدولة – الجيش كانت ممثلة في عبدالناصر وصولاً لمبارك، و «الإخوان» هم «الإخوان»، بتنظيمهم الحديدي وآلية السمع والطاعة والخلط المريب بين الدعوي والسياسي، والإشكالية أن تلك الثنائية تحاصر الناخب المصري، وتحاصر الثورة، بينما شباب الثورة والقوى المدنية غير قادرة على بلورة بديل ثالث أو الالتفاف حول زعيم قد يكون البرادعي أو حمدين صباحي. في هذا السياق يرى البعض أن حل البرلمان وبقاء العسكر والإعلان الدستوري سيحول دون توغل «الإخوان» وهيمنتهم على الدولة والمجتمع، ما يفيد القوى المدنية ويسمح لها بتنظيم صفوفها لخوض انتخابات البرلمان الجديد. ويذهب آخرون إلى أبعد من ذلك حيث يرون أن عودة سلطة التشريع للعسكر تضمن مدنية الدولة، وتحقق قدراً من التوازن بين السلطات. 7- تؤكد موازين القوى على الأرض، والاعتبارات الإقليمية والدولية، أننا لن نكون إزاء سلطة في مصر برأسين، رئيس وجيش ينشب بينهما صراع، وإنما رئيس منزوع السلطات والصلاحيات، وبلا أوراق للضغط. صحيح أنه رئيس شرعي منتخب، بل هو أول رئيس مدني في تاريخ مصر الجمهورية، لكن جماعة «الإخوان» لن تتمكن بمفردها من الضغط على العسكر وحشد القوى السياسية والشارع لتمكينه من ممارسة سلطاته بموجب الإعلان الدستوري، فأزمة الثقة بين «الإخوان» والقوى المدنية وشباب الثورة كبيرة، ويصعب تجسيرها، بخاصة أن بعض القوى الثورية تطالب «الإخوان» بمنع مرسي من تولي الرئاسة وتأدية القسم، إلا بعد إلغاء العسكر للإعلان الدستوري المكمل، وهو إجراء لن تقدم عليه الجماعة، فهي تتجنب الصدام مع العسكر، وقد اتسم رد فعلها على حل البرلمان بالهدوء وضبط النفس. من هنا يتوقع أن يسعى «الإخوان» لعقد صفقة جديدة مع العسكر لتقاسم السلطة. هكذا تخطو مصر الدولة و «الإخوان» في شكل متعثر نحو صيغة لتقاسم السلطة تأخذ بعض ملامح النموذج التركي - قبل أردوغان - والنموذج الباكستاني، فعسكر مصر ليسوا علمانيين مثل جنرالات أتاتورك، لكنهم أقرب إلى إسلام برويز مشرف. وهم معنيون بالحفاظ على مكاسبهم الموروثة من ثورة 1952، وعدم محاسبتهم على أخطاء المرحلة الانتقالية، أما مصر الثورة فستظل حائرة ومحبطة بين مسارات ما بعد انتخابات الرئيس، وفي انتظار موجات ثورية تحقق أهداف الثورة في العيش الكريم والحرية والعدالة الاجتماعية، والأغلب أن «الإخوان» والعسكر لن يتمكنا من تحقيق تلك الأهداف في المدى المنظور، وبالتالي فإن الإحباط الاجتماعي والشعور بخيبة الأمل بعد ثورة تطلعات هائلة سيفجران الأوضاع غير المستقرة التي ستعيشها مصر في الشهور المقبلة. * كاتب مصري