ما إن رأى الحلاق الجار العجوز جاره الصحافيّ الشاب عند الصباح، حتى بادره قائلاً وشيء من السعادة يرتسم على وجهه: «والله يا صاحبي إنه لأمر حسن هذا الذي قرأناه آتياً من فرنسا...». ما هو هذا الأمر؟ سأله الصحافي، فأجاب: «ولو...ألم تقرأ كيف ان الرئيس الفرنسي الجديد قدّم الى السلطات المسؤولة كشفا بأملاكه وحساباته المصرفية كما هي يوم وصوله الى السلطة، على ان يقدم كشفا آخر بعد انتهاء ولايته؟»... وإذ قال الحلاق هذا، راح يمتدح هذا النوع من الشفافية الديموقراطية التي تحول دون «السرقة والنصب» و «استغلال المنصب» على حد تعبيره... ثم راح يتساءل متفرّساً في محدثه: «ترى لماذا ليست لدينا في بلادنا أمور مثل هذه؟». هنا ابتسم الصحافي وأشار الى ان «لدينا شيئاً مشابهاً تقوم به المصارف سنوياً بإعلان موازناتها وارباحها وخسائرها ما يجعل شفافيتها مضمونة». سرّ هذا الخبر الحلاق وجعله من فوره يستطرد: إذا، اذا كان السياسيون في بلاد الله الواسعة يفعلون هذا... وإذا كانت البنوك في بلادنا تفعله، لماذا لا تفعله تلك السلطة الجديدة الموجودة الآن في كل بيت عربي وتتسلل الى كلّ عقل عربي؟ «أية سلطة تعني؟» تساءل الصحافيّ. «ولو... فهمك كفاية... أعني الفضائيات التي اصبحت القوة الفاعلة الرئيسة في حياتنا. باتت اقوى من السياسيين والبنوك، ومع هذا نكاد لا نعرف شيئاً عن اموالها ومموليها وموازناتها... انها حاضرة بقوة طوال الليل والنهار تصمّخ آذاننا بالأخبار والأكاذيب. تسيّر حياة الناس وأفكارهم، تبدل ذهنياتهم، ومع هذا لا تقول لنا شيئاً عمّن يمولها ويحدد سياساتها، وبالتأكيد يسدّ خسائرها ويمكّنها من استقطاب المذيعين والعاملين، وتخترع النجوم. ومع هذا لا نجد لديها اعلانات تؤيّد ما تقوله من ان «الجمهور هو الذي يمولها»... وفي نهاية الأمر، إذا حشرت في الزاوية ووجدت نفسها مضطرة الى الإفصاح حول المنبع الذي منه تأتي الملايين الوفيرة التي تمكّنها من الوجود والبقاء ستقول لك تلك العبارة السحرية الكاذبة: «انهم متموّلون عرب». ... وصمت الحلاق غاضباً يحك رأسه قبل ان يكمل شارحاً ان من بين السلطات جميعاً، لعل سلطة الإعلام هذه هي الجديرة أكثر من غيرها بأن تكون شفافة «حتى نعرف مع من نتعامل». قال الصحافيّ مستفزاً «ولكنهم يقولون لك مع من، وانت قلتها: متمولون عرب». هنا انفجر الحلاق في ضحكة عصبية وقال: «والله هذه أول مرة أسمع فيها عن متمولين يخجلون بإعلان اسمائهم صراحة... فيبقون فاعلين مجهولين ويواصلون الخسارة غير آبهين!..لا أحد يا صديقي يفعل هذا الا إذا كان مهرّباً او مبيّضاً للأموال... أو، في أكثر الأحيان، غطاء لأجهزة وقوى لا تريد الإفصاح عن نفسها»... وسكت الحلاق وقد سرّه ان يصل الى هذا الإستنتاج و «يربك» صديقه الصحافيّ، فيما تابع هذا طريقه معجباً بفطنة جاره الذي لا ينطلي عليه ما ينطلي على كثر في هذه الأيام!!