نظر الحلاق العجوز ملياً الى جاره الصحافي فيما كان هذا يمر به ويلقي السلام، من دون أن ينتظر رداً، لأنه يعرف أنه لن يسمع الرد كما ينبغي بسبب صممه النسبي، نظر الحلاق الى الصحافي ثم قال له بصوت مرتفع، كعادته كلما كلمه: «..أتعرف يا جار... لقد فكرت فيك كثيراً خلال الأيام الماضية ووجدتني، ربما للمرةالأولى منذ عرفتك أغبطك على صممك...». بادله الصحافي نظرته مندهشاً وقال له وهو يحاول أن يفهم سر ما يقول: «كنت اعتقد أنك تغبطني على أمور حسنة وجيدة لديّ... فما الذي يجعلك تختار أسوأ مصائبي لتحسدني عليها؟... بكل هدوء انما بسرعة قاطعة قال الحلاق: «... كأس العالم!». فما دخل كأس العالم بصممي؟ «ولو!! فهمك كفاية يا أستاذ... ترى ألم تلاحظ كيف أن ضعف سمعك المتعمق قد أنقذك من أمور كثيرة، سواء كنت من مدمني متابعة المباريات أو من غير المدمنين...». وإذ قال هذا، تابع الحلاق العجوز شرحه في وقت كانت الصورة قد بدأت تنجلي لصديقه الصحافي: ...فهو، قال الحلاق، إن لم يكن من المدمنين، فقد كفى شر ذلك التلوث السمعي الذي ملأ المدينة أياماً وليالي، من اطلاق رصاص ومفرقعات و «زمامير سيارات»... وصراخ وتهييص، ومشادات صاخبة وزغاريد أيضاً في كل مرة كانت فيها لحظة هدف أو مجرد حماسة أو توقع لهدف أو لضربة جزاء أو رفض هدف بداعي التسلل... ففي مثل تلك اللحظات كان جنون سمعي يستبد بالمدينة. والأدهى من هذا ان ذلك الجنون كان يصحب طلعات ونزلات كل فريق طالما أن المدينة قسمت نفسها بالعدل والقسطاس، بين فرق الأمم جميعاً... وحدّث ولا حرج هنا، عن اختتام كل مباراة وما يصحبها من جحيم صوتي... «لقد أنقذك سمعك يا صديقي من كل هذا»، قال الحلاق مشدداً، قبل أن ينتقل الى الشق الثاني... «أما ان كنت - وأعرف أنك لست كذلك - من مدمني المباريات، الذين ابتلاهم الله بآفة متابعتها على القناة العربية الوحيدة التي احتكرت بثها في كل زاوية وركن عربي، فإن الداهية كانت أعظم. ذلك أنه كان من سوء حظك أن تتحمل ساعات وساعات أولئك المعلقين العرب، الذين كانوا خلال المباريات يخرجون في كل لحظة عن طورهم ويخرجونك معهم، بتعليقاتهم الثرثارة وأصواتهم اللابشرية وصخبهم وتفصيلاتهم، وحتى بنصائحهم للاعبين، وتوبيخهم لهم ان اخطأوا، ومدحهم في زعيق كأصوات البعير إن وجدوا منهم ما يرضيهم...». وإذ كشر هنا الحلاق عن وجهه مشمئزاً، نظر الى جاره الصحافي ملياً متسائلاً وهو يقول له: «يا صديقي أفلا تعتقد أن نجاتك من هذا كله طوال أسابيع مرعبة، يستحق مني تهنئة حارّة لك، وتعبيراً مني عن حسد، أرجو أن تعذرني عليه؟».