من الواضح أن عالم صناعة الكتب والدوريات والمجلات والصحف مقبل على تحول نوعي، وثورة مستمرة لا أظن أن خيالنا قد حلم بها قبل سنوات، أو أن علماء المستقبليات قد ظنوا أنها ستكون على هذا المقدار المذهل من التسارع والتغير. التقط بعض المجلات الثقافية المؤثرة هذا التسارع، الذي يصعب اللحاق به، في تطور المعلوماتية ووسائل الاتصال الجماهيري، وها هي تطور أشكال الوصول إلى قرائها. من بين هذه المجلات الدورية البريطانية النخبوية غرانتا Granta، التي ظهرت في ثمانينات القرن الماضي لتكسر حصار المجلات والصحف الثقافية التي تقصر النشر على عدد محدود من الكتاب الذين يتحلقون حولها، وتفتح الباب للجيل الجديد من الكتاب والمؤلفين، وتتحول إلى علامة أساسية في المشهد الثقافي البريطاني، وتصير خلال سنوات قليلة منبراً للكتابة الجديدة وتداخل الكتابات الإبداعية والتصوير الفوتوغرافي وأدب الرحلة والمذكرات، وكل ما يمت إلى السرد والحكاية التي آمنت المجلة بأنهما يكشفان عن أعماق الواقع ويمثلان جوهره. مجلة غرانتا أحست بأن تراجع مبيعاتها يعود إلى تناقص عدد قراء طبعتها الورقية، فقررت أن توسع دائرة قرائها، وتركز على آداب العالم بدلاً من التركيز على الأدبين البريطاني والأميركي بصورة خاصة. لكن الأهم من ذلك أن غرانتا ستبدأ صفحة جديدة في مسيرتها بأن تتخذ أربع صيغ طباعية للقراءة: الطبعة الورقية، والطبعة الإلكترونية e-book، والموقع على الشبكة العنكبوتية، والبرامج التطبيقية التي تستخدمها الهواتف الذكية والحواسيب اللوحيّة، لكي تتجنب مصير غيرها من المجلات الورقية التي توارت من المشهد بسبب قلة عدد القراء. تطور آخر يحدث في حقل بيع الكتب، حيث اقتنعت المحال الكبيرة لبيع الكتب في بعض الدول المتقدمة في العالم بأن استمراريتها تتمثل في السباحة مع التيار، والتسليم بأن الزمان هو زمان الكتاب الإلكتروني، لا الكتاب الورقي، فالأخير يشهد، كما يبدو، أيامه الأخيرة، على رغم كل ما يبذله الناشرون من جهود لإقناع القراء بأن النسخة الإلكترونية ليست سوى رديف للكتاب الورقي الذي ما زال يحتل سلم أولويات دور النشر الكبيرة في العالم. دور النشر الناشئة والصغيرة هي التي تراهن بصورة أساسية على الكتاب الإلكتروني وتحجم عن إصدار طبعات ورقية منه. لكن التحول الجديد يتمثل في دخول مكتبات كبيرة لبيع الكتب الورقية في العالم، خصوصاً في بريطانيا، ميدان بيع الكتب الإلكترونية. فقبل أيام قليلة وقعت مكتبة ووترستونز البريطانية، التي تمتلك ثلاثمئة مكتبة موزعة في أنحاء المملكة المتحدة، عقداً مع موقع أمازون لبيع الكتب لتزويدها بالنسخ الإلكترونية من الكتب التي ستعرضها ووترستونز جنباً إلى جنب مع النسخ الورقية. وقد أضافت المكتبة البريطانية في فروعها ركناً أساسياً الآن لبيع هذه الكتب وتنزيلها في الحال على قارئة كندل الإلكترونية لمن يطلب من زبائنها. هذا تطور مهم بالفعل، خصوصاً أن سلسلة دكاكين بيع الكتب التي تنتشر في أحياء في العاصمة لندن، إضافة إلى مدن بريطانية أخرى، أحجمت في السابق عن دخول هذا العالم الضوئي من المعرفة السابحة على الشاشات. لكنها الآن ستضيف إلى العناوين الورقية في فروعها حوالى مئتي ألف عنوان لكتب تتخذ صيغة إلكترونية، هي مجموع ما يمتلكه موقع أمازون. أتذكر عندما كنت أدخل فرعاً من فروع ووترستونز، لدى زيارتي مدينة لندن، الدهشةَ التي كانت تعتريني عندما أشهد غابات الكتب التي تملأ المكان. الأمر نفسه كان يحدث معي عند دخول مكتبة بلاكويل في مدينة أكسفورد حيث توجد غابة هائلة من الكتب في طبقات المكتبة الكثيرة المصممة بطريقة تجعل الداخل يرى رفوف الكتب المزدحمة في الطبقات المختلفة في الوقت نفسه. الآن لا حاجة لكل هذا، فالفضاء الافتراضي يقلص المساحات ويتسع لكل تلك الرفوف في عدد قليل من الآلات الصغيرة، سواء كانت قارئات إلكترونية أو أسطوانات مدمجة، أو أي شكل آخر من أشكال تخزين المعلومات والمعارف يضع العالم الواسع الكبير على آلة صغيرة قد تكون في المستقبل بحجم عقلة الإصبع. لكن السؤال هنا هو سرعة انتقال هذا التطور الجديد في متاجر بيع الكتب إلى العالم العربي. فنحن ما زلنا متمسكين بالشكل التقليدي من أشكال النشر، وحجم النشر الإلكتروني في بلادنا ما زال ضعيفاً، والناشرون المتمرسون، ذوو التجربة الممتدة الطويلة في نشر الكتاب الورقي، يتهيبون دخول هذا العالم الجديد من المعرفة السابحة على الشاشات. وما يسمى في عالم النشر «كتب برسم الطلب» ليس رائجا لدينا، لأن الكتاب ما زال يتشبث بصيغته الورقية، والمؤلفون أنفسهم ينتفضون فزعاً إذا حدثهم الناشرون عن النشر الإلكتروني بديلاً من النشر الورقي. فكيف يمكن أن تتحول المكتبات التي تملأ أرففها الكتب إلى محال صغيرة فيها عدد قليل من شاشات الحاسوب ونماذج من قارئات الكتب الإلكترونية والإنترنت (أو خدمة الواي فاي) في مقبل الأيام؟ لعل ذلك يكون يوماً قريباً سنشهده بأسرع مما نتوقع.