بدا اليمن حزيناً عشية عيده الوطني، الذكرى 22 للوحدة. كان المشهد دموياً وجنونياً. مئات الجثث والأشلاء ملأت المكان في بضع ثوان، ومئات الجرحى تغطي الدماء أجسادهم في ساحة لم تكن مهيأة لحرب. لا شيء اخترق لحظة الذهول سوى أنين الجرحى وصيحات استغاثة تتسرب من بين جثث القتلى وأشلائهم. في ذلك الصباح الصيفي، كان بضعة آلاف من عناصر الجيش اليمني وقوات الأمن المركزي يصطفون في ميدان السبعين في صنعاء لتقديم العرض التجريبي الأخير صباح 21 أيار (مايو) الماضي أمام وزير الدفاع وكبار قادة الجيش والأمن استعداداً للاستعراض العسكري الذي كان مقرراً أن يقام في الميدان ذاته صباح اليوم التالي، احتفالاً بالذكرى 22 للوحدة اليمنية، في حضور الرئيس عبد ربه منصور هادي وكبار قيادات الدولة والسفراء. كانت فرقة الموسيقى العسكرية بدأت عزف مقطوعات حماسية حين دوّى انفجار عنيف في مؤخرة طوابير العسكر وقوى الأمن. عرف آنذاك أن «انتحارياً» ينتمي الى تنظيم «القاعدة» ويرتدي زياً عسكرياً يغطي حزاماً ناسفاً وزنه أكثر من 7 كيلوغرامات من المتفجرات والمسامير، تسلل وفجّر نفسه بين سرايا الأمن المركزي وطلاب الكليات العسكرية مخلّفاً 100 قتيل وأكثر من 300 جريح في أكبر عملية إرهابية يتعرض لها الجيش من جانب «القاعدة» في اليمن. لم يكن التفجير الانتحاري في «ميدان السبعين» عملاً استثنائياً، أو غير متوقع من «القاعدة»، وإنما جاء في وقت كانت ألوية من الجيش تنفذ حملة واسعة بدأتها قبل 10 أيام في محافظة أبين (جنوب) هي الأكبر للقضاء على التنظيم واستعادة المدن والمناطق التي يسيطر عليها مسلحوه في الجنوب منذ آذار (مارس) 2011، وخلال أشهر على بدء الحملة كانت وحدات الجيش ومواقعه ومعسكراته في أبين ومحافظات مجاورة عرضة لهجمات مسلحي جماعة «أنصار الشريعة» الذراع العسكرية ل «القاعدة»، والهدف هو إنهاك الجيش والانتقام منه عقب كل غارة تشنّها طائرات التجسس الأميركية على مواقع «القاعدة» في اليمن. الجيش يدفع الثمن بعد كل غارة تنفذها طائرات أميركية لضرب قيادات تنظيم «القاعدة» ومواقعه في اليمن يصاب الجيش بحال من الارتباك. الأميركيون شديدو الحرص على سرية توقيت غاراتهم والمواقع المستهدفة. ليس هناك ما يلزم واشنطن بالتنسيق مع السلطات اليمنية في العمليات العسكرية في البلد المضطرب المهدد بالانزلاق إلى الفوضى الشاملة، على خلفية الأزمة الراهنة التي أفضت تداعياتها إلى انقسام الجيش وتعدد ولاءاته. ومنذ مطلع العام الماضي لم يقتصر فشل الجيش اليمني في عدد من المحافظات الجنوبية على الإخفاق في ضرب مواقع «القاعدة» ومنع المسلحين المتشددين من التمدد والسيطرة في هذه المناطق، وإنما بات الجيش عاجزاً عن الدفاع عن نفسه والذود عن مواقعه التي أصبحت هدفاً سهلاً لمسلحي التنظيم وأنصاره، ثأراً من الغارات الأميركية بعمليات موجعة تطاول الثكن تحديداً في محافظة أبين. المحافظة باتت شبه خاضعة لسيطرة «القاعدة»، وذراعه العسكرية جماعة «أنصار الشريعة» التي تمتلك من سلاح الجيش (استولت عليه في عملياتها «الانتقامية» و «الجهادية» التي وصلت إلى أكثر من 30 عملية منذ مطلع آذار 2011)، ما يمكّنها من تنفيذ عمليات هجومية ضد وحدات الجيش. ويؤكد ضباط في الجيش قريبون من عمليات الحرب على «القاعدة» أن الأميركيين لم يطلبوا رسمياً من الحكومة اليمنية إذناً للقيام بطلعات تجسسية فوق الأراضي اليمنية أو لضرب أهداف «إرهابية» محددة، منذ اندلاع الأزمة الراهنة مطلع العام الماضي والتي أسفرت تداعياتها عن انشقاق الجيش وإضعاف المنظومة الأمنية للدولة في كل المناطق والمحافظات. ويقول هؤلاء إن واشنطن كانت حصلت على امتيازات في اليمن، لجهة تسهيل تدخلها المباشر في الحرب على «القاعدة» منذ أحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001، والهجوم على المدمرة الأميركية «يو إس إس كول» قبالة ساحل عدن أواخر العام 2001 والذي نفذه تنظيم «القاعدة» في اليمن، وأسفر عن مقتل 16 من «المارينز». ويشير هؤلاء الضباط الى أن الرئيس السابق علي عبدالله صالح خضع للضغوط الأميركية ووافق على منح واشنطن تسهيلات تسمح لطائراتها بطلعات تجسس وتنفيذ ضربات ضد مواقع ل «القاعدة»، واستهداف قيادات للتنظيم في مقابل تقديم مساعدات عسكرية محدودة، وتدريب قوات النخبة في الحرس الجمهوري، في إطار التعاون الثنائي في مكافحة الإرهاب والحرب على «القاعدة». وتقوم الولاياتالمتحدة بدور أساسي في رعاية المرحلة الانتقالية للسلطة وتنفيذ الأطراف السياسيين بنود المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية، من خلال سفير أميركا في صنعاء جيرالد فيرستاين. وفي ضوء الانقسام الحاصل في الجيش، فإن كل الأطراف السياسيين والعسكريين يتسابقون لاسترضاء سفير واشنطن، باعتباره يمتلك أدوات الضغط عليهم لتنفيذ اتفاق «التوافق» على التسوية السياسية للأزمة... بالتالي ليس من مصلحة أي طرف إغضاب السفير الذي لا يجد حرجاً في التلويح بفرض عقوبات دولية على أي طرف يعرقل تنفيذ تعهداته. ولم تبدِ كل الأطراف تعاوناً كافياً لتنفيذ آلية المبادرة الخليجية لإخراج البلد من الأزمة، وما زال كل طرف يطرح شروطه للمشاركة في مؤتمر الحوار الوطني، ويعرقل خطة الرئيس «التوافقي» عبد ربه منصور هادي لإعادة هيكلة القوات المسلحة وتوحيد الجيش تحت قيادة واحدة، بحيث يتجاوز البلد أخطار الصدام في صفوف الجيش المنقسم، خصوصاً في صنعاء. وتتمركز في ضواحي العاصمة أهم وحداته وأكثرها تسليحاً وتدريباً، وفي مقدمها قوات الحرس الجمهوري التي يرأسها نجل الرئيس السابق العميد أحمد علي عبدالله صالح وفروع وحداتها الموالية للرئيس السابق وقوات الفرقة الأولى مدرع والوحدات الموالية لقائدها اللواء علي محسن الأحمر الذي أعلن انشقاقه عن الرئيس السابق في آذار 2011 وتأييده حركة الاحتجاجات المناهضة للنظام والمطالبة برحيل علي صالح. وتعهد الرئيس هادي (انتُخب رئيساً توافقياً في 21 شباط الماضي) في خطابه الأول، إنهاء الانقسام في المؤسسة العسكرية والأمنية وإعادة هيكلتها وتأهيلها لمهماتها الوطنية، بما فيها حسم المواجهة مع «القاعدة» التي قال انها لم تبدأ بعد، ولن تنتهي إلا باجتثاث التنظيم من اليمن، واستعادة الدولة السيطرة على كل المناطق التي تخضع لنفوذ المسلحين المتشددين في الجنوب، خصوصاً محافظة أبين مسقط رأس الرئيس، ووزير الدفاع اللواء محمد ناصر أحمد وقائد المنطقة العسكرية الجنوبية اللواء سالم قطن. وعلى رغم أن واشنطن ما زالت تعتمد على معلومات أجهزة الاستخبارات اليمنية في ملاحقة قيادات تنظيم «القاعدة» في اليمن ومواقعه وضربها، إلا أن أجهزة الاستخبارات الأميركية تمكنت من خلال مكاتب أنشأتها في اليمن في السنوات الأخيرة من استقطاب مئات من رجال القبائل وضباط في أجهزة الأمن والجيش، لتعزيز مصادر معلوماتها عن «القاعدة» ومراكز قياداته وتمكنت من اختراق صفوف التنظيم عبر عناصر منتمية إليه، أو موالية له من جماعة «أنصار الشريعة» تم تجنيدها لهذه المهمة. وكان التنظيم أعدم عدداً من أنصاره نهاية العام الماضي ومطلع هذه السنة بتهمة التجسس للاستخبارات الأميركية في مدينتي جعار في محافظة أبين، وعزان في محافظة شبوة، وتجنيد جواسيس يعملون لمصلحة الطيران الأميركي، وإيصال شرائح هواتف خليوية إليهم لوضعها على سيارات «المجاهدين» من أجل تسهيل استهدافهم بصواريخ الطائرات الأميركية. اختراقات ناجحة وعلى رغم أن التنظيم اكتشف عملية اختراقه من الاستخبارات الأميركية، وأُعدم بعض من حامت حولهم الشكوك، أسفرت الغارات الأميركية عن قتل عشرات من قيادات «القاعدة» خلال السنوات الأخيرة. ومنذ أول عملية اغتيال أميركية لقادة «القاعدة» في اليمن، استهدفت قائد التنظيم أبو علي الحارثي وخمسة من مرافقيه في صحراء محافظة مأرب، منتصف تشرين الأول (أكتوبر) 2002 (بواسطة صاروخ أطلقته على سيارته طائرة من دون طيار)، مروراً بعملية اغتيال أنور العولقي في أيلول الماضي في صحراء محافظة الجوف (شمال البلاد)، وانتهاء باغتيال فهد القصع أحد أبرز قادة «القاعدة» في منطقة جعار (محافظة أبين) قبل أسابيع، وهو المتهم الرئيس بتفجير المدمرة «كول»، فإن عمليات «القاعدة» الانتقامية ضد وحدات الجيش اليمني وقوات الأمن أسفرت عن مقتل أكثر من ألفي جندي وضابط، وجرح ما يفوق ثلاثة آلاف، بموجب تقديرات غير رسمية. وبدا جلياً أن أجهزة مكافحة الإرهاب الأميركية اعتمدت في السنوات الأخيرة، على مصادرها التي جنّدتها في اليمن، للحصول على المعلومات التي تمكنها من رصد أهدافها وتحديد البقعة الجغرافية لتحركاتها وتنقلاتها في المناطق النائية التي لا تصل إليها الأجهزة الأمنية اليمنية، وتنفيذ ضربات جوية بأقل مقدار من الأخطاء، بحيث يكون اعتمادها على معلومات أجهزة الاستخبارات اليمنية في مرتبة ثانوية. والهدف تفادي الأخطاء التي وقعت فيها طائرات التجسس (من دون طيار) منذ نهاية العام 2009 وأزهقت أرواح عشرات المدنيين ودمرت منازل وقرى في عدد من المناطق التي استهدفتها تلك الغارات. وأحرج ذلك الحكومة اليمنية وعزز تعاطف رجال القبائل مع «القاعدة»، فيما انضم الى التنظيم مئات من المسلحين المناوئين للحكومة والغاضبين من ضرب الطائرات الأميركية لمناطقهم. وأكدت مصادر عسكرية وأمنية يمنية أن أجهزة الأمن في اليمن تضخ الى الأجهزة الأميركية والدوائر المعنية بمحاربة «القاعدة» في واشنطن، كمّاً هائلاً من التقارير والمعلومات حول نشاط «القاعدة» وحركة قياداته ومخططاته «الإرهابية» في اليمن وخارجه، وتزودها نسخاً من محاضر التحقيقات مع المعتقلين، والمتهمين من عناصر التنظيم. وذكرت أن علي عبدالله صالح منح الأجهزة الأميركية تسهيلات كبيرة منذ عام 2000، مكنتها من إنشاء مراكز رصد ومراقبة في عدد من المحافظات، وفتح مكاتب لها في مبنى السفارة الأميركية في صنعاء واستقدام مئات من عملاء هذه الأجهزة وخبرائها للعمل في هذه المكاتب، بحجة التنسيق مع الأجهزة اليمنية، وفي إطار التعاون في مكافحة الإرهاب. وقالت المصادر ان واشنطن مارست ضغوطاً شديدة على الرئيس السابق لفرض برنامج التعاون معها في مكافحة الإرهاب في اليمن، في مقابل حصول الحكومة اليمنية على زيادة في المساعدات الاقتصادية وحض الدول المانحة على تكثيف برنامج المساعدات لتمويل التنمية في اليمن، إضافة إلى منح القوات اليمنية المعنية بمحاربة «القاعدة» ومكافحة الإرهاب، مساعدات في العتاد العسكري وتمويل نشاط جهاز الأمن القومي بملايين الدولارات، وتدريب كوادر من ضباط الاستخبارات في صنعاء وواشنطن. وأشارت المصادر إلى أن معظم الوعود الأميركية تبخر، وقالت: «أميركا تأخذ ما تريد من دون أن تعطي المقابل، وهذه طريقتها في التعاطي مع اليمن». ولفتت إلى أن السفير فيرستاين مارس كل الضغوط على أطراف الأزمة اليمنية لمنع أي مواجهة عسكرية مباشرة وتفادي حرب بين الجيش الموالي للرئيس السابق والجيش المنشق عنه، لئلا يستفيد تنظيم «القاعدة» من انهيار الوضع عسكرياً. وذكرت ان السفير لا يزال يمارس ضغوطه لإعادة هيكلة الجيش، وفق برنامج لا يعيد توحيده بالضرورة بقدر ما يضمن تركه لخوض مواجهة حاسمة مع «القاعدة». واعتبرت أن واشنطن مستفيدة من حال الاضطراب في اليمن وضعف الدولة، وانهيار مؤسساتها العسكرية والأمنية والحكومية، لتتخذ من ذلك مبرراً لتنفيذ ضربات ضد تنظيم «القاعدة» وقياداته في اليمن، بواسطة طائراتها التي تنطلق من أسطولها العائم في بحر العرب والبحر الأحمر من دون موافقة الحكومة، أو الرضوخ لما كانت واشنطن تصفه ب «الابتزاز» الذي مارسه علي صالح معها، في مقابل تعاونه لتسهيل عملياتها ضد «القاعدة». العمليات العسكرية الأميركية و«الصفقة» دخلت مروحيات «أباتشي» الأميركية ضمن العمليات العسكرية الأميركية المباشرة ضد تنظيم «القاعدة» في اليمن، بعدما اقتصرت هذه العمليات خلال السنوات الأخيرة على طلعات لطائرات التجسس من دون طيار، للحصول على معلومات تمكّن الأميركيين من رصد أهداف ل «القاعدة» وشن غارات عليها بغطاء كامل من الحكومة اليمنية. وتتحمل الحكومة تبعات تلك الضربات الجوية، إذ تسارع إلى إعلان أن الطيران الحربي اليمني نفذ تلك الضربات، وتطلق عليها ضربات استباقية لأوكار الإرهاب، بالتالي تتحمل تبعاتها لجهة سقوط ضحايا من المدنيين. بل وذهبت صنعاء في تأكيد تغطيتها لتلك الغارات الأميركية إلى حد ادعاء تنفيذها بطائرات تجسس يمنية (من دون طيار). وإذا تأكدت المعلومات حول مساهمة مروحيات «أباتشي» الأميركية في العمليات العسكرية ضد «القاعدة» في محافظة أبين حيث تدور معارك ضارية بين الجيش اليمني ومسلحي التنظيم، فذاك يعني أن واشنطن تمكنت من الضغط على الحكومة اليمنية والمؤسسة العسكرية للدفع بقوات الجيش من اجل خوض معركة حاسمة ضد «القاعدة»، في مقابل وعود بمد هذه القوات بالسلاح، ومساعدات تمكنها من القضاء على «القاعدة» في المناطق التي يسيطر عليها التنظيم في الجنوب. ويؤكد وزراء يمنيون سابقون وحاليون أن الحكومة اليمنية لم تكن في صورة الاتفاق بين الرئيس السابق علي صالح وواشنطن، ولم تناقش الحكومة الحالية أو تبحث رسمياً أي طلب لمنح أميركا تسهيلات ذات طابع عسكري في الأراضي اليمنية. ويوضحون أن تلك الاتفاقات التي كانت تتم في إطار مؤسسة الرئاسة، والدوائر العسكرية والأمنية القريبة جداً من علي صالح، ربما تبرم اليوم في الإطار الضيق ذاته، على مستوى مؤسسة الرئاسة والمؤسسة العسكرية القريبة من الرئيس عبد ربه منصور هادي.