نجحت السلطات اليمنية أواخر شهر أيار (مايو) الماضي في احتواء التداعيات الخطيرة لمقتل أمين عام المجلس المحلي في محافظة مأرب جابر علي الشبواني وأربعة من مرافقيه في «غارة جوية نفذتها طائرة أميركية دون طيار» وفقاً لمصادر ديبلوماسية غربية، بيد أن هذا النجاح لا يخفي عجزها عن مواجهة الضغوط الأميركية والحد من تدخلات واشنطن المباشرة وغير المباشرة في الشأن اليمني وانتهاك سيادته تحت مبرر الحرب على الإرهاب، وملاحقة العناصر المتشددة والمشتبه بانتمائها لتنظيم «القاعدة». ويقول مراقبون للشأن اليمني أن الرضوخ للضغوط الأميركية، والسماح لأجهزة واشنطن الاستخباراتية وقواتها المتواجدة بالقرب من السواحل اليمنية بتنفيذ عمليات نوعية ضد عناصر «القاعدة» في عمق الأراضي اليمنية يعد الخطر الأكثر ضرراً على اليمن حتى من تنظيم «القاعدة»، ويرون أن الممارسات الأميركية في هذا الجانب تفتح لليمن المزيد من بؤر التوتر والصراعات، وتقحم السلطات في مواجهات غير محسوبة العواقب مع مواطنيها في أكثر من منطقة بسبب الأخطاء الفادحة التي ترتكبها القوات الأميركية عند تنفيذ مثل هذه العمليات وما تخلفه من جروح عميقة في نفوس اليمنيين. وتتفق رؤية المصادر الديبلوماسية الغربية التي تحدثت إلى «الحياة» في صنعاء، مع ما يطرحه عدد من الباحثين والمتخصصين في شؤون التنظيمات المتشددة، حول انعكاسات التدخل الأميركي في الشؤون اليمنية، والذين يرون أن العمليات الجوية التي نفذتها أجهزة الاستخبارات الأميركية بواسطة طائرات من دون طيار ضد عناصر «القاعدة» في اليمن، وخلفت عدداً كبيراً من الضحايا المدنيين زرعت السخط في نفوس اليمنيين ضد أميركا، وفي الوقت ذاته أكسبت «القاعدة» تعاطفاً شعبياً غير مسبوق. واشنطن تدرك جيداً حقيقة الانعكاسات السلبية لشن حرب مباشرة ضد الإرهاب في اليمن، وتلقت من خلال عدد من التقارير الاستخباراتية تحذيرات صريحة تؤكد أن مثل هكذا خطوة من شأنها تحويل اليمن إلى أفغانستان أخرى، وهو ما تتجنبه إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما التي أعلنت أواخر الشهر الماضي عن إستراتيجيتها للأمن القومي، وسيقتصر دور واشنطن على دعم الحكومات المحلية لتتحمل المسؤولية في الحرب على «القاعدة»، وترتكز الإستراتيجية الجديدة على مقولة أن «ثقل القرن الجديد لا يمكن أن يقع على أكتاف أميركا وحدها»، كما يقول الرئيس أوباما. إلا أنه وبالتزامن مع الإعلان عن هذه الإستراتيجية كشف مسؤولون أميركيون عن معلومات جديدة في شأن التدخل في اليمن، مؤكدين بأن «الجيش الأميركي وأجهزة الاستخبارات الأميركية كثفت جمع المعلومات باستخدام طائرات استطلاع وأقمار اصطناعية واعتراض الإشارات لتتبع أهداف القاعدة داخل وخارج قواعدهم في اليمن»، بما يعزز من العمليات الأميركية ضد التنظيم وقادته. وتتضارب تصريحات الأميركيين أنفسهم حول طبيعة التدخل الأميركي في اليمن، حيث أعلن أحد المسؤولين العسكريين مؤخراً استمرار «دعم اليمنيين في تصديهم لهذا التهديد داخل حدودهم»، بينما قال آخر هناك خطاً دقيقاً يفصل بين لعب دور داعم وأخذ زمام المبادرة. وفي وقت سابق أكد منسق مكتب مكافحة الإرهاب في وزارة الخارجية الأميركية دانيال بنيامين، في ورقة عمل قدمت إلى مؤتمر دولي نظمته مؤسسة كارنيغي، أن الإستراتيجية الأميركية الجديدة لمكافحة الإرهاب والتطرف في اليمن، تعتمد على تدريب قوات الأمن الداخلي والمركزي وقوات مكافحة الإرهاب والمساعدة في الرقابة على الحدود وأمن المطارات ومعرفة الوثائق المزورة وغيرها. لكن المعطيات الميدانية تكشف غير ذلك، حيث وسعت أجهزة الاستخبارات الأميركية نشاطها في اليمن في أعقاب الأمر السري الذي أصدره في أيلول (سبتمبر) 2009 الجنرال ديفيد بترايوس قائد القيادة الوسطى للجيش الأميركي، يسمح بإرسال قوات أميركية خاصة إلى دول صديقة وعدوة في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى والقرن الإفريقي لجمع المعلومات الاستخبارية وبناء علاقات مع القوى المحلية، وتسمح خطة بترايوس للقوات الأميركية بالنشاط في اليمن بعد ثلاثة أشهر من بدء العمل بها، بهدف تفكيك تنظيم «القاعدة» في شبه الجزيرة العربية. وتعتبر مصادر سياسية يمنية أن الأفعال الأميركية في الغالب تناقض الأقوال، ويرون أن واشنطن «تشن حرباً مباشرة ضد عناصر القاعدة في اليمن من خلال العمليات الجوية الخاطفة التي لا تنسبها لنفسها وتنفذ بعد أن تخترق الأجواء اليمنية في عمليات تجسس واسعة وعلنية»، كما أنها تمارس ضغوطاً كبيرة على السلطات اليمنية وتدفع بها لتبني هذه العمليات، الأمر الذي يزيد من تعقيد الأمور في اليمن أكثر فأكثر، بخاصة أن لليمن تركيبة قبلية ودينية معقدة تعتبر التدخلات الأميركية استفزازاً لمشاعرالقبائل وتحدياً لإرادتها. وترى المصادر أن «البصمة الأميركية» واضحة في العملية الجوية التي نفذت (مساء الإثنين 24 أيار/ مايو الماضي) في محافظة مأرب (170 كيلومتر إلى الشرق من العاصمة صنعاء) وأودت بحياة الشبواني ومرافقيه، حتى وإن أعلنت السلطات اليمنية تبنيها لهذه العملية، والقول إنها كانت تستهدف عناصر تابعة لتنظيم «القاعدة»، وإن مقتل نائب محافظ مأرب كان خطأ بادرت إلى الاعتذار عنه واحتواء تداعياته الخطيرة بعد أن تدخل الرئيس اليمني علي عبدالله صالح وشكل لجنة رئاسية للتحقيق في الحادثة وامتصاص غضب القبائل التي احتشدت لمواجهة السلطة والانتقام لمقتل أحد أبنائها. وشهدت محافظة مأرب التي تعد من المعاقل الرئيسة لعناصر «القاعدة» أوضاعاً عصيبة على مدى أربعة أيام، شن خلالها أبناء آل شبوان وقبائل عبيدة التي ينتمي إليها الشبواني هجمات مسلحة ضد مصالح حكومية وحيوية في المحافظة، أبرزها القصر الجمهوري ومحطة الكهرباء التي قطعت خطوطها عن العاصمة صنعاء، وتفجير أنابيب النفط، إلى جانب المواجهات المسلحة ضد قوات الجيش، ما أدى إلى خسائر بشرية ومادية كبيرة، قبل أن تتمكن السلطات اليمنية من نزع فتيل التوتر وتبديد أجواء الحرب والمواجهات، بإقناع قبائل آل شبوان وعبيدة بالقبول بالتحكيم القبلي مقابل إشراك عدد من مشايخ القبيلة في لجنة التحقيق الرئاسية. وعلى رغم احتواء تداعيات هذه العملية ونجاح السلطات في نزع فتيل التوتر في وقت قياسي، إلا أنها تلقت الكثير من الانتقادات الحادة بسبب أسلوبها في التعامل مع هذه الحادثة والذي تعتبره مختلف الأوساط اليمنية لا يتناسب مع منطق الدولة، الذي يفترض أن يقوم على أسس قانونية ودستورية، وأن تعالج مثل هذه القضايا من خلال المؤسسات، لا أن تعطل هذه المؤسسات وتخضع للعرف القبلي، وتتحول من راع لكل أبناء اليمن إلى خصم ضعيف يحتكم لقوانين القبيلة. وأياً كان حجم وحدّة الانتقادات التي تلقتها، فإن السلطات اليمنية نجحت هذه المرة في احتواء تداعيات الغارة الأميركية، من خلال التعامل الجاد مع الموقف واعتذارها عن الخطأ في الوقت المناسب، وإعلان أسفها لمقتل الشبواني ومرافقيه وتشكيل لجنة تحقيق، وقبل كل ذلك التدخل المباشر للرئيس صالح، ووفقاً لسياسيين يمنيين تحدثوا إلى «الحياة» فإن الرئيس اليمني «أدرك منذ الوهلة الأولى لاشتعال الأزمة الأخيرة خطورة الموقف، بالتالي تعامل بالاستناد إلى هذا الإدراك الواعي، ما مكنه من وأد فتنة كان من شأنها أن تلحق باليمن خسائر فادحة»، بخاصة مع وجود آبار النفط والغاز ومحطة الكهرباء في هذه المحافظة، وفي ظل الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية الصعبة التي تمر بها البلاد. غير أن النجاح الذي حالف السلطات اليمنية هذه المرة قد لا يتحقق لها مستقبلاً، بخاصة أنها لا تزال عاجزة عن تضميد جراحات قديمة سببتها عمليات مشابهة نفذت أواخر السنة الماضية ومطلع هذه السنة، فضلاً عن أن وقوع هذه الحادثة وبهذه الطريقة سوف يزرع العراقيل أمام جهود الحكومة وخطواتها القادمة ذات الصلة بحربها على تنظيم «القاعدة» ويفقدها تعاون ومساندة المواطنين في هذه المحافظة وغيرها من المناطق اليمنية التي يتواجد فيها عناصر القاعدة، علاوة على أن إصرار أميركا على المضي في الطريق ذاته من شأنه أن يمثل نقطة تحول جديدة في مسار الحرب على «القاعدة» في اليمن من جهة، والعلاقة بين واشنطن وصنعاء من جهة ثانية. ذلك أن السلطات اليمنية التي باتت «تستشعر خطورة التدخلات الأميركية» وفقاً لمصادر حكومية تحدثت إلى «الحياة»، أصبحت «عاجزة عن تحمل أعباء وتبعات هذه التدخلات التي تقحمها في صراعات داخلية غير محمودة العواقب، بصرف النظر عن أوضاع اليمن أو مراعاة ظروفه الداخلية»، وتقول المصادر الحكومية التي طلبت عدم كشف هويتها، إضافة إلى ما سبق فأن «الإدارة الأميركية لا تقدم لليمن الدعم المادي والسياسي الذي يوازي الدور المطلوب منه في إطار الحرب على الإرهاب، ويعينه على تجاوز مشاكله الاقتصادية والسياسية»، مشيرة إلى أن الغارة الجوية الأخيرة التي نفذت في محافظة مأرب وقضى فيها الشبواني كبدت اليمن خسائر كبيرة بفعل التفجيرات التي تعرضت لها أنابيب النفط، وقطع خطوط الكهرباء، إلى جانب ما ستتحمله الدولة من تعويضات ونفقات مالية كبيرة لمعالجة آثار العملية، وهذه الخسائر بحسب المصدر ذاته تفوق حجم المساعدات السنوية التي تخصصها أميركا لليمن، والتي كانت في حدود 70 مليون دولار، ورفعت مطلع السنة الجارية إلى 150 مليون دولار. ويؤكد المصدر الحكومي أن السلطات اليمنية تمتلك القدرة التي تمكنها من التعامل مع عناصر تنظيم «القاعدة»، بعيداً من التدخل الأميركي، ويقول: «اليمن يحتاج للدعم المادي والفني والاستخباراتي، وعندما يتوافر له ذلك فإنه يجيد التعامل مع القاعدة، أما التدخل الأميركي المباشر فإنه يزيد خطورة التنظيم و أعداد المتعاطفين معه من الناقمين على السياسة الأميركية، وفي الوقت ذاته يفتح للسلطات اليمنية الكثير من المشاكل التي لا تستطيع التعامل معها في ظل الظروف الراهنة التي تمر بها البلاد». ومنذ حادثة اغتيال زعيم «القاعدة» السابق في اليمن أبو علي الحارثي أواخر العام 2002 بواسطة طائرة أميركية من دون طيار، مروراً بعمليات القصف الجوي الأخيرة لما قيل أنه مراكز وتجمعات للقاعدة في محافظات أبين وشبوة ومأرب والتي خلفت عدداً كبيراً من الضحايا المدنيين غالبيتهم من الأطفال والنساء، لم تكترث واشنطن لأي حسابات يمنية أو عواقب محتملة جراء هذا النوع من الأعمال التي لا تلحق أي ضرر بعناصر «القاعدة» بقدر ما تسقط هيبة الدولة اليمنية وتدفعها للاعتذار عن تلك العمليات وتحمل تكاليفها الباهظة، وهو ما حدث في الغارة التي شنتها الطائرة الأميركية على قرية المعجلة في محافظة أبين منتصف كانون الأول (ديسمبر) الماضي وتسببت في مقتل 42 طفلاً وامرأة، إلى جانب أنها قد تدخل في صراعات ومواجهات مع مواطنيها. كما أن هذه العمليات بحسب باحثين في شؤون التنظيمات المتشددة، من شأنها أن توفر مناخات أكثر تشجيعاً لاتساع نشاط التنظيم وزيادة أنصاره والمتعاطفين معه، كما تضيف مساحة جديدة له في معركته الإعلامية الموجهة لكسب ودّ القبائل اليمنية وتحريضها ضد السلطات اليمنية ومن ورائها الولاياتالمتحدة الأميركية نفسها، ويؤكد هؤلاء ل «الحياة» أن التنظيم استقطب خلال الأشهر الأخيرة من السنة الماضية ومطلع هذه السنة العشرات من العناصر الشابة، غير المراقبة أو المعروفة لأجهزة الأمن اليمنية. ويعتقد الكثير من اليمنيين أيضاً أن ست حروب طاحنة شهدتها محافظة صعدة بين السلطات اليمنية والحوثيين على مدى ست سنوات، ودمرت فيها محافظة بكاملها وأنهكت قدرات الدولة والجيش اليمني، فضلاً عن العدد الكبير من الضحايا كانت أيضاً بسبب أميركا، التي طالبت عبر سفارتها في صنعاء السلطات اليمنية بمنع عناصر «الشباب المؤمن» من ترديد شعار «الموت لأميركا... الموت لإسرائيل» في المساجد، باعتباره تحريضاً على الولاياتالمتحدة، قبل أن تشتعل جبال صعدة وحرف سفيان حرباً ضروساً لا تكاد تتوقف حتى تشتعل مجدداً.