خبر الفلسطينيون هجرات قسرية عدة، لأسباب سياسية واقتصادية خارجة عن إرادتهم ولذنوب لم يقترفوها. ففي عام 1990، عندما قرّر الرئيس الراحل ياسر عرفات الذي عمل مهندساً في وزارة الأشغال العامة في الكويت (حيث أسّس حركة فتح بدعم من الدولة الخليجية التي فتحت أبوابها ومؤسساتها للفلسطينيين منذ عام 1936) الوقوف في صفّ الرئيس العراقي صدام حسين عندما غزا الكويت، غادر حوالى 400 ألف فلسطيني وطنهم الثاني. رحلوا عن بلد شكلوا 18,6 في المئة من سكانه، وفي جعبتهم ذكريات جميلة تشوبها الحسرة، بعدما استقروا وكدّوا وكانوا جزءاً من دولة الكويت الحديثة. واندمج الفلسطينيون الذين قطنت غالبيتهم في منطقتي حولي- النقرة والفراونة، سريعاً في المجتمع الكويتي، على رغم اختلافات ثقافية بين البلدين، بل ساهموا في نهضة الكويت، خصوصاً التعليمية والمعمارية. «نكبة جديدة» كان ترحيل الفلسطينيين من الكويت بمثابة نكبة جديدة. تلاشت ذكريات وتجارب ومآس وأفراح، ولم يبقَ منها سوى قصص يحكيها كبار السنّ عن رغد العيش في البلد البديل، وبعض الصور الطيفيّة تختزنها أذهان الشباب. من بقايا هذه الصور والذكريات نسجت الفلسطينية المقيمة في الكويت، رنا صادق، فكرة متحفها الرحّال «أدوات تردّ الغياب» (Museum of Manufactured Response to Absence)، الذي يستقبله «متحف الفن الحديث» في الكويت حتى نهاية حزيران (يونيو) الجاري، في رعاية المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، وبمشاركة 22 فناناًَ من جنسيات مختلفة، تولّت التنسيق بينهم الفنانة الفلسطينية المقيمة في الأردن آلاء يونس التي ولدت في الكويت. تنسجم فكرة المتحف الذي لا مكان محدّداً له، وأعماله المفتوحة على احتمالات الهجرة والنفي والترحال والغياب والانتماء والاختفاء والسرد والذكريات والحياة الافتراضية، مع تجربة اللاوطن واللابيت. الابتعاد عن العناصر النمطية (الكليشيه) وعدم تأطير المتحف في كادر محدّد، جعل من الأعمال الفنية، البسيطة شكلاً والعميقة مفاهيمياً، قابلة للتأويل والإسقاطات على أي فرد أو جماعة أو عائلة أو مجتمع عاش تجارب مماثلة. وقد يشعر شخص فقدَ بيت الطفولة بأن هذا المتحف يُمثّله، يُحاكي ذكريات كان يعتقد أنها امّحت. قد يشعر بأن الأعمال التي يراها أمامه في صرح عتيق يقف وحيداً بين الرمال في وسط العاصمة التي هدمت بيوتها القديمة ونُقلت إلى مناطق أخرى، خيوطاً ملوّنة مضاءة من زمن معاصر تسحبه إلى زمن التلفزيون الضخم ولعبة الأتاري الإلكترونية وال «ETCH A SKETCH». توثيق غير تقليدي يوثّق «متحف أدوات تردّ الغياب» من إنتاج «مشاريع من راسي» (أُسست عام 2009 وهي هيئة لإنتاج ودعم ومتابعة مشاريع تنبع من أفكار رنا صادق ويلتزم زوجها سامر يونس تنفيذها) لمرحلة ذهبية من تاريخ الكويت التي دعمت الفلسطينيين وكفاحهم المسلح، ولتجربة مجتمع فلسطيني مصغّر كان له الأثر الكبير، بحسب خبراء، في ازدهار القطاع الثقافي في الكويت. هو ليس توثيقاً بالمعنى التقليدي للكلمة، بل توثيق من وجهة نظر صادق التي عاشت التجربة وكانت محظوظة بالبقاء في الكويت، مع قلّة من الفلسطينيين من حاملي جنسيات أجنبية أو ممن جُنّسوا لرفعة مناصبهم وعطاءاتهم في الدولة. ويبدو واضحاً لمتفحص الأعمال الفنية المفاهيمية التي كلّفت صادق الفنانين تنفيذها، الجهد المبذول كي تكون الأعمال فريدة ومعاصرة ومعبّرة عن صدق المشاعر التي عاشها هذا المجتمع، بلا نمطية، وكي يكون الطرح موضوعياً من دون أن يتّخذ المتحف موقفاً سياسياً قد يؤذي شعور المواطنين الكويتيين أو حتى الفلسطينيين. ويُعتبر تنفيذ «متحف يرد الغياب» في الكويت في هذا التوقيت بالذات، خطوة نادرة وجريئة في الوقت نفسه، إذ يعاني القطاع الثقافي الكويتي مرحلة عصيبة ومشوّشة ولم يركب الفنون موجة المعاصرة التي لحقت بها دول خليجية مثل قطر وأبوظبي، وبقيت متاحف الكويت وغاليرياتها متوقفة في زمن الثمانينات. لكن «مشاريع من راسي» سارت بعكس التيار فأثارت جدالاً ثقافياً واجتماعياً واسعاً. وقد يكون التجهيز الفني لخليل رباح «الولاياتالفلسطينيةالمتحدة للطيران» الذي شارك في معرض للسياحة والسفر في الكويت العام الماضي، مثالاً على ذلك. كما أنه قلّما أُنتجت أعمال إبداعية توثيقية عن هذا المجتمع بين 1948 و1990، وما زال موضوع الفلسطينيين وترحيلهم ولغط «وقوفهم في صفّ العراق»، جدلياً وحساساً بالنسبة إلى الكويتيين. لا تدري صادق، المعروفة بدعمها المادي والمعنوي لكثير من الفنانين في المنطقة العربية، لماذا قررت تنفيذ هذا العمل: «ربما للتعبير عن كتل من الذكريات عن مجتمع ساهم في نهضة الكويت التي دعمتنا كشعب منذ 1948. ربما أردت أن أشارك الناس أفكاري بهذه الطريقة». وتضيف: «لكن الأهم أنني عندما رأيت الأعمال بعدما تعبنا جميعاً على تنفيذها، بدعم من الفنان المصري المقيم في الكويت يحيى السويلم والباحثة الفلسطينية المقيمة في أبوظبي سلوى المقدادي والمجلس الوطني، شعرت بأن همّاً ثقيلاً أزيح عن قلبي». يبدأ المتحف بعمل بعنوان «المسطرة» للتركي جودت إريك. وهي بداية تتحكّم بالمتحف وتقيس زمنه الذي يقف عند زمنين مهمين عام 1948 وعام 1990، المفتوحين على اللازمن. المسطرة المصنوعة من الذهب الخالص الذي صُنعت منه قطع أخرى في المتحف نظراً إلى رمزية هذه المادة الثمينة التي يدّخرها الفلسطينيون للأيام السود، تعرّف نقاط دخول الفلسطينيين إلى الكويت وخروجهم منها. ثم ننتقل إلى عمل منمنم يوثق وسائل النقل التي اعتمدها الفلسطينيون للوصول إلى الكويت آنذاك وهي الباص، الصهريج، السيارة والطائرة. ثم يأخذنا الإيطالي برونو فانتوني إلى فلسفة المضي قدماً من خلال «بويك» وهي السيارة المفضلة لدى فلسطينيي الكويت آنذاك، فيعرض لنا مرآة السيارة التي كتب عليها «الأشياء الظاهرة في المرآة أقرب مما تظهر لك) التي تحتّم على السائق نحو المستقبل أن يتطلّع إلى الوراء. كأنه يقول لنا إن الماضي أساس المستقبل، وكأنه يشير إلى أن الذكريات التي تحملها أذهاننا على رغم هشاشتها وبساطتها هي قريبة منا أكثر مما يراها الناس. أدوات تتحدى الزمن وبين التاريخ الذي يُخشى أن يُنسى المتمثّل بكتاب فارغ ذي صفحات بيض في صندوق من الماء يأتي بعنوان «تاريخ» لمحسن حراقي، و«ثوب» رائد إبراهيم الكويتي الضخم المطرّز تطريزاً فلسطينياً مستوحى من خطوط لعبة الأتاري التي كانت رائجة في الثمانينات، وكعكة زياد هلال التي تأتي على شكل ليمونة من مزارع يافا وحيفا تزن 70 كيلوغراماً لتتحدى الزمن، وخريطة منطقة حوَلّي التي نفّذها محمد أبو سلّ على بالون من البلاستيك الرقيق ورسم فيها قطارات ومترو وطرق تؤدي إلى كل دول العالم، إلى الفلس الفلسطيني القديم الذي كتب عليه الكويت وهي إشارة إلى المبلغ الذي كانت تقتطعه الدولة الكويتية من راتب كل موظف لدعم الكفاح المسلح في فلسطين، ينقلنا متحف «أدوات ترد الغياب» إلى مشاهد وذكريات من يوميات مجتمع مرّ من هنا، إلى ذكريات تتحدى الزمن كي لا تندثر.