هل أصبح الموت عادياً؟ الحرب عاديّة؟ أتكون كذلك عاديّة ونحن لا ندري؟ مثلما تُبدي مريم ابنة الخمسة أعوام رأيها بالحرب: «هالحرب زيّ اللي قبلها، أولّها خفت وبعدين عادي». تقول طفلتنا جملتها بينما تُسرّح شعرها أمام المرآة، تترنّم بكلام غير مفهوم، أسمعها بأذني، لا يمكنني تصديق قولها، وأتخيّل بعيني وجهها مضرّجاً بالدماء، مبتورة الساق، تبكي، تنادي، تلهث، أتخيّل كل ذلك، وغيري يراه حقيقة لا تحتمل التبديل ولا التغيير أو حتى الشفاء. ألمس شعرها البني لأتأكّد من سلامتها وأحمد الله أنّ الذي جال برأسي مصدره خوفي عليها وعلى أطفال إخوتي الآخرين. هنا وهناك تقارير حيّة ينقلها مراسلون «مدجّجة» بصور أطفال مذبوحين ومشوهّين، ولكثافة حضورهم تشعر كأنّهم يتجولون بين الصالة والغرفتين الجنوبية والشرقيّة، وعلى الشرفة الواسعة يتناولون قسطاً من الراحة. أخبار متواصلة لحظة بلحظة، من فرط هلعك لا تعلم بالضبط من أين ينبعث صوتها، من التلفاز أم المذياع أم الكومبيوتر المحمول، أم من الثلّاجة أو الغسّالة، أم إنه صوت مولّد المياه أو مولّد الكهرباء، أم صادر منك، أم هو صوت طلقات رصاص تهليلاً وفرحاً بأسر الجندي الإسرائيلي أورون شاؤول. الأهالي، أهالي الشهداء غنّوا ورقصوا ووزعّوا حلوى فرحاً بأسره، وجوههم مغبرّة ومدماة لكن الضحكة تملأ وجوههم. صفحات ال «فايسبوك» أغدقت الجموع بلحظة الحدث، قولوا لي بمَ يشعر الغزيّون بكل هذا الفرح بعد يوم حافل بالشهداء والجرحى، والطائرات الحربيّة لم تزل تُحلّق في زرقة سماء القطاع؟ أيّ طينة جُبل منها الغزيّون ليكونوا كذلك؟ هي فشّة الغل ولا داعٍ للاستغراق في الإجابة والتحليل النفسي الآن. فقط الوقت مُتاح ومفتوح على آخره لفريق الأطباء والمتطوعين والممرضين والمسعفين، وكل من له يد في إنقاذ روح من الموت. مفرح للغاية أن تُشاهد شريط فيديو يصوّر إنقاذ إحدى ضحايا مجزرة الشجاعية من الموت، بعد انتشالها بأعجوبة من تحت الركام. ومشاهد أخرى كثيرة وثّقها مسعفون في مناطق مختلفة، جاهزون وعلى أهبة الاستعداد، لا وقت لديهم للحديث عن شيء. مسعفون بكل أشكالهم وهيئاتهم وبزّاتهم الرسميّة وغير الرسميّة، مهمتهم إنقاذ أكبر عدد ممكن من الأرواح المسكينة. هل من يسمع؟ هل من يُنقذ؟ من يوقف عدّاد الموت المتزايد؟ لسنا معرضاً فوتوغرافياً لاستعراض قدرات الخلق على مواجهة الموت، هل هناك مذياع صغير يجدي فعلاً، يفعل شيئاً، يأخذ من وقت الغزّي لينشيه فرحاً. لا ليملأ معدته كلاماً إنشائياً وشعراً مقتبساً من العصر القديم والحديث، وخطباً لا تملّ من ترداد نفسها واحدة تلو الأخرى؟ شبعنا من اللوم والعتاب والزعيق لأنّ هذه السطور ربما نكتبها للمرة الأخيرة.