لم تحقق المحاولات الاسرائيلية للتقليل من اهمية النكستين اللتين تعرضت لهما اسرائيل خلال الايام المنصرمة الغاية المتوخاة منها. فالتفسير الذي قدمه نتانياهو، رئيس الحكومة الاسرائيلية، لقرار مصر بالتوقف عن تزويد اسرائيل بالغاز المصري، عندما دعا الى فهم الامر في اطار العلاقة بين شركتين للغاز واحدة مصرية وأخرى اسرائيلية، لم يقنع احداً. وقوله ان هذا القرار لا يؤثر في العلاقات المصرية - الاسرائيلية ولا في اسرائيل لأنها باتت على ابواب التحول من مستورد للغاز الى مصدّر له بدا مفتقراً الى الجدية. صحيح ان السلطات المصرية المعنية اعلنت ان القرار عائد الى اعتبارات فنية وتجارية وليس الى حوافز سياسية، ومن ثم فإن تفسيرها له لم يكن بعيداً كلياً عن تفسير المسؤولين الاسرائيليين. وصحيح انه كانت هناك مصلحة مشتركة اسرائيلية - مصرية في عدم تحويل مسألة صادرات الغاز الى ازمة فاصلة في العلاقات بين الجهتين. ولكنه صحيح ايضاً ان القرار المصري وتفاعلاته، بما في ذلك محاولات التقليل من اهميته في حد ذاتها، ارتدت طابعاً سياسياً. يكفي ان نتوقف عند رد فعل مجلس الشعب المصري على القرار حتى نتأكد من طابعه السياسي. ويكفي ان نعرف حجم التأييد النيابي لهذا القرار وأن نتابع اجواء مناقشته حتى نتأكد مرة اخرى من هذا الطابع. ولكن فضلاً عن ذلك، يمكن التأكد من الطابع السياسي ومن المضمون الوطني للقرار عبر النقاط الاربع الآتية: • لقد جاء القرار في سياق صعود سياسي لقوى مصرية دأبت على انتقاد اتفاقية كمب دافيد، وعلى معارضة سياسة التطبيع. وفي الآونة الاخيرة اعربت هذه القوى (اسلامية، قومية، يسارية) عن موافقتها على مراعاة التزامات مصر الدولية. الا ان هذه القوى لم تعلن عن موافقتها على تطبيع العلاقات مع اسرائيل، ولا على تحول التطبيع الى تحالف واقعي وغير معلن بين حكومتي «الليكود» وحسني مبارك. وبعد الثورة المصرية، علا صوت هذه القوى في نقد اي مظهر من مظاهر التطبيع بما في ذلك الزيارة الاخيرة لمفتي الديار المصرية الشيخ علي جمعة الى فلسطينالمحتلة. • ان اتفاقية الغاز المصرية - الاسرائيلية كانت هي على وجه التحديد، موضع جدل واسع بين مصر واسرائيل، ونقد واسع من المواطنين المصريين. وتعطل تصدير الغاز مراراً الى اسرائيل، اما بسبب عمليات تمت ضد منشآت الغاز في سيناء، أو لأسباب اخرى. • ان اتفاقية الغاز تحولت الى دليل حي على عبثية اقامة علاقات متكافئة مع اسرائيل. فلقد تم التوصل الى هذه الاتفاقية في مناخات تؤكد اهمية اقامة علاقة «نموذجية» - من وجهة نظر التطبيعيين - بين اسرائيل وبين اول بلد عربي وقع معاهدة سلام معها. ولئن كان لا بد من ان يقدم واحد من الطرفين المتفاوضين تنازلاً الى الطرف الآخر، فإن بديهيات قيام العلاقة النموذجية بين الطرفين اقتضت ان تقدم اسرائيل لا مصر هذه التنازلات، لأن اسرائيل كانت هي المستفيد الاكبر من السلام مع مصر، اكبر وأهم بلد عربي. كذلك اقتضت هذه البديهيات ان تقدم اسرائيل على هذه التنازلات ترسيخاً للمعاهدة وتشجيعاً للدول العربية الاخرى على الاقتداء بمصر. ولكن اتفاقية الغاز جاءت على عكس ذلك عندما فرضت على مصر بيع الغاز الى اسرائيل بشروط مجحفة. من هنا تحول نقد اتفاقية الغاز الى مدخل مناسب لمراجعة نمط العلاقة الذي فرضته اسرائيل وأصدقاؤها الدوليون على مصر والذي اختاروه نموذجاً للعلاقة مع سائر الدول العربية، اي علاقات هيمنة واستغلال، وليس علاقات تعاون، كما يشيع الزعماء الاسرائيليون ومتعهدو التطبيع مع اسرائيل. • ان إلغاء اتفاقية الغاز دل ايضاً على صعوبة ان لم تكن استحالة اطلاق مسارات تعاون وظيفي بين اسرائيل من جهة، وبين الدول العربية بما فيها تلك التي توقع اتفاقيات سلام مع اسرائيل من جهة اخرى. فالتعاون الوظيفي لا يعكس القدرات السياسية والعسكرية للاطراف المعنية بمقدار ما ينطلق من المصالح المشتركة بينها. على النقيض من هذه المبادئ، فقد عكست اتفاقية الغاز موازين القوى بين اسرائيل التي تملك اقوى جيش في المنطقة وتستند الى دعم القطب الاعظم والاوحد دولياً، وبين مصر التي لم تتوافر لها هذه الميزات. هذه الاوضاع حولت الغاء اتفاقية الغاز بين مصر وإسرائيل الى ما هو اكثر من مجرد إلغاء لاتفاقية عادية بين «شركتين» ودولتين. الغاء الاتفاق تحول الى مراجعة لنموذج العلاقة بين مصر واسرائيل. أثر هذه المراجعة قد يبقى محدوداً لولا انه يأتي في الوقت نفسه مع النكسة الثانية التي اصابت حكومة بنيامين نتانياهو على صعيد علاقاتها الاقليمية. اتت هذه النكسة حين اعربت انقرة عن معارضتها دعوة اسرائيل الى قمة الاطلسي المقبلة لامتناع الاخيرة عن الاعتذار عما ارتكبته ضد الاتراك المشاركين في «قافلة الحرية». جاء هذا الموقف معاكساً لبعض التوقعات التي ترددت في الآونة الاخيرة حول احتمالات التحسن في العلاقات التركية - الاسرائيلية. وقد برزت هذه التوقعات في ظل معطيين مستجدين: الاول هو التدهور المتفاقم في علاقات تركيا مع سورية والعراق واليونان وقبرص وأرمينيا، بحيث تبدو انقرة اليوم وكأنها انتقلت، كما يقول احد المراقبين لسياستها الخارجية، من اعتماد سياسة «صفر مشاكل مع دول الجوار»، الى اعتماد سياسة «صفر سلام مع هذه الدول». وحيث ان هذه الاوضاع قد تؤثر سلبا في مشاريع التنمية في الداخل وفي مكانة تركيا الاقليمية والدولية، رجح البعض ان تسعى انقرة الى تحسين علاقاتها مع بعض الاطراف الاقليمية، والى التخفيف من حدة التوتر في علاقاتها مع اسرائيل. الثاني، هو التحول الملحوظ في دول الغرب بصورة خاصة تجاه اردوغان وتجاه التجربة التي يقودها. فلقد انتقل الكثير من المؤسسات الاعلامية من الثناء على رئيس الحكومة التركية لانه يقود التحول الديموقراطي في بلد ذي غالبية اسلامية وفي حزب اسلامي المعتقد، الى توجيه الانتقادات المتفاقمة الى اردوغان لأنه «بدأ يظهر على حقيقته كحاكم اوتوقراطي واسلامي متشدد»! وتبرز هذه الانتقادات بصورة ملحوظة في الاعلام المتعاطف مع اسرائيل، وفي سياق الضغط على الحكومة التركية لاعادة النظر في موقفها تجاه حكومة نتانياهو. فهذه المؤسسات الاعلامية تعتبر موقف حكومة اردوغان تجاه اسرائيل امتحاناً لصدقيتها الديموقراطية، كما تذكر هذه المنابر الاعلامية اردوغان بانه عندما كانت تركيا حليفاً استراتيجياً لاسرائيل، رضخت دمشق لارادة تركيا عندما طلب منها اخراج عبدالله اوجلان، زعيم حزب العمال الكردستاني، من الاراضي اللبنانية والسورية، بينما تدير دمشق اليوم ظهرها لتركيا. يفهم من ذلك ان مصلحة اردوغان وحزب «العدالة والتنمية» التركي تقضي بتحسين العلاقة مع اسرائيل حتى تتحسن صورة رئيس الوزراء التركي في المجتمع الدولي. في ظل هذه المعطيات، برز الاعتراض التركي على مشاركة اسرائيل في قمة الحلف الاطلسي التي ستُعقد في شيكاغو خلال النصف الثاني من شهر ايار (مايو) المقبل. وقد جاء هذا الاعتراض مخالفاً للآمال الاسرائيلية بخصوص المشاركة في قمة الاطلسي وفي تحسن العلاقات مع تركيا، وشكل نكسة ثانية لحكومة نتانياهو خلال الفترة المنصرمة. اذ ينظر المرء الى كل نكسة على حدة، فإنه يمكن القول بأن اثرها على مجمل الاوضاع الاسرائيلية لن يكون كبيراً. ومن المؤكد انها لن تسبب للزعماء الاسرائيليين الارق الشديد، ولن تضطرهم الى ادخال تغييرات سريعة ومباشرة على سياستهم الاقليمية تجنباً لتراجعات جديدة. ولكن الاثر التراكمي لمثل هذه النكسات، وفي ظرف المتغيرات السياسية التي تمر بها المنطقة العربية جدير بإقناع الاسرائيليين بمراجعة سياساتهم بخاصة على الصعيد الاستيطاني في الاراضي الفلسطينية والجولان والاراضي والمياه الاقليمية اللبنانية، فهل يفعلون؟ هل تتراجع اسرائيل وحكومة نتانياهو بصورة خاصة عن مشاريع التوسع والهيمنة في المنطقة؟ يقول بنيامين نتانياهو رداً على مثل هذه الاسئلة: «هناك الآن خيار واحد امام اسرائيل: ان ننتصر بصورة حاسمة في الحرب المفروضة علينا (...) علينا ان نسعى وراء تحقيق نصر عسكري شامل على عدو متصلب يخوض حرباً ارهابية ضدنا (...) علينا ان ننتصر على عدو مصمم على ابادتنا». كتب نتانياهو هذه الكلمات قبل عقد من الزمن (صحيفة «هيرالد تريبيون» الدولية في 06/04/2002)، ولكنه منذ ذلك التاريخ لبث هو وسائر المنتمين الى المدرسة الصهيونية التي نشأ فيها، يتمسكون بهذا الخيار. ولسوف يستمر هذا التمسك، الى ان تتغير موازين القوى في المنطقة فتتكاثر وتتكثف النكسات ويقتنع الاسرائيليون بأن هذا الخيار يقود الى الهاوية وليس الى الامان. * كاتب لبناني