كان للنشاط الديبلوماسي والسياسي التركي في الجوارين، الشرق الأوسطي والآسيوي القوقازي، صدى واسع في صحافة العالم، منذ أسابيع العام الأولى الى نهاية العام. وفاتحة السنة كانت جولة عربية، زار في أثنائها رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان 4 دول عربية، وتداول مع مضيفيه في قضية غزة. وفي وقت تخلفت أوروبا عن التدخل، بينما تنتقل رئاسة الاتحاد الدورية الى تشيخيا المتحفظة، وغابت أميركا، المنشغلة بتنصيب رئيسها الجديد، «أفلح أردوغان في ربط تركيا، إعلامياً على الأقل، بدائرة الحوادث الهامة (...) وأدت دوراً غير مسبوق، ولم تنتزع هذا الدور من أحد، بل دعتها اليه مصر، الدولة العربية المتصدرة»، على ما كتب جنكيز شندار («راديكال» التركية، 4/1/2009). ويرى المعلق التركي أن دور تركيا في وقف النار بغزة، وفي مفاوضات ما بعد وقف النار، متواضع، فعلاً. واستمراره وثقله هما رهن النتائج التي قد تسفر الانتخابات الإسرائيلية الوشيكة عنها، ورهن انخراط الدول الكبيرة في مساعي الوساطة الاقليمية. خطوط الطاقة والإسلام وتوقع انتصار بنيامين نتانياهو، رئيس الليكود، شأن تجديد ولاية محمود أحمدي نجاد، الإيراني، يقودان المراقب الى انتظار انفجار الحرب، والى «تداعي أحجار الدومينو (في) الشرق الأوسط الكبير»، بحسب جيرار شاليان («لوموند» الفرنسية، 10/1). ولا تحمل الحرب المتوقعة المعلقين على التكهن بخسارة الدور التركي حظوظه في إرساء السلام أو التوسط في إرسائه. وقد تحمل بعضهم، شأن ألكسندر أدْلِر («لوفيغارو» الفرنسية، 24/1)، على المبالغة في تصوير الدور وتعظيمه. ويرشح المعلق الجيش التركي «المسلم» الى «ضمان الحدود بين اسرائيل وغزة، وبين مصر وغزة، فيرضي ذلك الفلسطينيين والإسرائيليين معاً»، على خطى قول بشار الأسد الى «ديرشبيغيل» الألمانية. والدور التركي الثاني، المحتمل، هو تموين تركيا الاتحاد الأوروبي بالغاز الروسي بواسطة مضاعفة طاقة خط نابوكو، فتكون أوروبا «بمنأى من انفعالات الكرملين الهستيرية»، على الصورة التي بدت عليها في معالجة الكرملين مسألة الأنبوب الأوكراني. ويرى الكاتب «بشائر التصدي للأزمة الإيرانية» في جر غاز أذربيجان، من ناحية، وغاز تركمانستان وكازاخستان، من ناحية أخرى، الى الأناضول فأوروبا. وقد شق الأنبوب الثاني، التركمانستاني والكازاخستاني، براً، في الأراضي الإيرانية، يقلص كلفته (قياساً على مده في بحر قزوين)، ويدعو ايران الى ضخ غازها في الأنبوب الى الغرب. ويعود هذا على ايران بعوائد عظيمة. ويضع الكاتب على كاهل أنقرة مهمة «عرقلة خطة ايران إنشاء (محور شيعي) يصل طهران ببغداد، بعد رحيل الأميركيين، وبدمشق وبيروت». فتفك دمشق «قيودها الإيرانية»، يساعدها على فكها بلوغ المفاوضات على الجولان «نهايتها تقريباً». ويهمش الحكمُ السوري «العناصر المتشددة في النظام». وينسج السنّة اللبنانيون والعراقيون علاقات هادئة و «غير متشنجة بالعالم الشيعي». وترعى تركيا، ومعها إيران، حلفاً شيعياً - سنياً، وعربياً - تركياً، في العراق، ويسع الأميركيين الانسحاب. وتسوى المسألة النووية، في نهاية المطاف. وتتولى تركيا ضم روسيا الى تسوية المسألة الفلسطينية - الإسرائيلية. ويلاحظ جنكيز شاندار - نفسه («راديكال»، 7/2) أن موقف أردوغان من غزة، أي مشادته مع شمعون بيريز في دافوس، «رفعه الى مرتبة بطل في عيون الشارعين العربي والتركي». ويعزو السياسة التركية الجديدة هذه الى أن «أراضي دولة اسرائيل كانت ولاية من ولايات السلطنة العثمانية (...) وتتحمل تركيا مسؤولية تاريخية وجغرافية تجاه تلك الأراضي وسكانها (...) وتملأ فراغاً في القوة خلفته حرب العراق، وانقسام الدول العربية وضعفها». وحين زار الرئيس التركي عبدالله غل موسكو في الأسبوع الثاني من شباط (فبراير)، لاحظ سيرغي بالماسو («برافدا رو»، 13/2) أن المصالح المشتركة الروسية - التركية في القوقاز واستجرار الغاز والشراكة الاقتصادية (33.8 بليون دولار حجم التبادل التجاري، و2.8 مليون من السياح الروس)، متشعبة وراجحة. وعلى رغم هذا، تتحفظ روسيا عن انخراط تركيا في بناء خط نابوكو، والترويج له، على حساب الخط الجنوبي، البلقاني، الذي ترعاه روسيا. وتتمنى موسكو، من غير شك، حظر أنقرة على السفن الحربية الأميركية عبور المياه التركية الإقليمية الى المرافئ الجورجية على البحر الأسود. ولا غنى لتركيا عن دور روسي نشط في حل النزاع بين أذربيجان وأرمينيا على الإقليم الأرمني (السكان) الأذري (الجغرافيا)، ناغورني - كاراباخ، ويقتضي الحل توسط موسكو التي تربطها بيريفان علاقة وثيقة، على أن تتولى تركيا، وعلاقتها بباكو عميقة، الدفاع عن مصالح حليفها. والمسألتان المعلقتان هما مساندة رجال أعمال أتراك الشيشان، وسعي روسيا الى انتزاع اعتراف تركي ب «استقلال» أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية عن جورجيا. «العثمانية القومية» ويعيد أصلي إيدينتاسباس، مدير مكتب «صباح» التركية («انترناشيل هيرالد تريبيون»، 25/2)، عناصر السياسة التركية المتفرقة والبارزة الى «رؤية سياسية جديدة» تعود الى قبل عقد، عرضها يومها عبدالله غل الرئيس الرئيس التركي اليوم. وقال غل للصحافي إن حزب العدالة والتنمية عازم، حين توليه الحكم، على «إنشاء نوع من (كومنولث) بين تركيا ودول الجوار الآسيوية، ومنها سورية وإيران». ويرى الحزب «أن الأولوية السياسية تعود الى «آسيا والدول الإسلامية»، ومستقبل تركيا هو في آسيا وليس في أوروبا. ولم يلق «خط» أحمد داود أوغلو، مستشار أردوغان قبل تولي وزارة الخارجية، في «العمق الاستراتيجي» (عنوان كتابه)، ترحيب النخب العلمانية والوطنية التركية. وأسهم في تغير موقف النخب هذه صد الاتحاد الأوروبي تركيا، وغزو الغرب، وعلى رأسه أميركا، العراق، وتعاظم ثقل «الصحوة» الإسلامية في المجتمع التركي. والحزب الحاكم، الإسلامي المعتدل، ليس الباعث على الانعطاف، ودوره يقتصر على تأطيره. وحين عودة أردوغان من دافوس، رفعت حشود مستقبليه لافتات تسميه «فاتح دافوس». وانقطاع تركيا، منذ 1923 (إلغاء الخلافة)، من تراثها العثماني خلف «أزمة هوية مؤلمة في الأجيال التركية». ولكن «العثمانية المتجددة» ليست في منأى من تحديات كبيرة ليس مصير الديموقراطية والعلمانية أقلها شأناً، والحلفاء الجدد المنشودون معظمهم بعيد من الركنين هذين. وضعف الركنين، إذا لم تحمل تركيا حلفاءها هؤلاء على الاقتداء بها، يؤدي لا محالة الى إطفاء «بريق الإنجاز» الديبلوماسي. وينبه ديفيد ل. فيليبس (في عدد الصحيفة نفسه) الى مكانة تركيا الاستراتيجية في السياسة الأميركية. وهو يستبعد أن تبادر أنقرة، رداً على إقرار برلمانيي واشنطن قانوناً يدين المجازر في حق الأرمن، الى حظر استعمال القوات الأميركية قاعدة انجيرليك الجوية، وهي محطة إمداد هذه القوات بأفغانستان ونقلها الى العراق ومنه. ولكن العلاقات الثنائية في مأزق. وعبء تفادي انهيارها «يقع على عاتق أردوغان». ففي وسعه استباق الأزمة من طريق معالجة علاقة تركيا بأرمينيا وإرسائها على سوية عادية وطبيعيّة. وليسَ من مصلحة تركيا تحدي بروكسيل، ولا إغلاق المرافئ التركيّة في وجه السفن القبرصية اليونانية، ولا عرقلة توحيد الجزيرة، ولا الانسياق وراء «الشارع الإسلامي». «فهذا الشارع يفضي الى الشرق الأوسط وليس الى أوروبا». الوسيط وعثراته وبدا ان اختيار باراك أوباما انقرة منبراً خاطب منه العالم الإسلامي، بدد ظل الخلاف الكبير وتهديده. ونهج أوباما الداعي الى الانفتاح على الخصوم يلتقي، على ما رأى غرنفيل بيغورد (موقع «نيوزويك» الأميركية، 4/4)، مع نهج الحكومة التركية. ولا يناقض انفتاح أنقرة على دول جوارها علاقاتها الوثيقة بالغرب ودوله. ف «العلاقات الدولية ليست زواجاً يوجب حظر مواعدة أطراف أخرى، وهي أقرب الى علاقات عالم الأعمال المتنوعة والمتشعبة». وحاجة أميركا الى تركيا، اليوم، تفوق حاجة تركيا الى أميركا. وما يشاع عن ميل أوباما الى معارضة مشروع «القرار الأرمني» في محله، وسياسة راشدة. فتركيا وسيط لا غنى عنه في جس نبض طهران قبل مفاوضتها، وفي سبر سياسة «حماس» الفعلية. والحلقة التركية حيوية في الأمرين. ومقايضة تركيا زيادة قواتها في أفغانستان بتعاون أميركي استخباري في مسألة «الكردستاني» تعود على البلدين بالفائدة. وغداة تطبيع العلاقات التركية - الأرمنية، والتمهيد الى فتح الحدود بين البلدين، زار رئيس الوزراء التركي باكو. وألقى خطبة في البرلمان الأذري قال فيها ان الحدود لن تفتح قبل حل مسألة إقليم قره باغ (كارا باخ). فرأى قدري غورسال («ملليت» التركية، 25/5) أن كلام أردوغان يقوض سنتين من الديبلوماسية السرية التركية أدتا الى رسم «خريطة طريق» ناطت بلجنة مؤرخين البت في الموضوع الأرمني. ويعزو الكاتب خروج أردوغان الى «مناورات صغيرة» إرضاء لبعض الأصدقاء في أذربيجان. وغداة توقيع تركيا وأرمينيا بزوريخ، في أوائل تشرين الأول (أوكتوبر) اتفاقي تعاون، حذر عبدالله غل من تجدد النزاعات الخامدة وانبعاثها، شأن النزاع الروسي - الجورجي («لكسبريس» الفرنسية، 15/10). ودعا الى الحوار على «مرابطة» قوات أرمينية في كاراباخ في ضوء مبدأ عام يقضي بألا يحتل بلد أراضي بلد آخر، وألا يقبل مثل هذا الاحتلال، وأعلن عن فتح الحكومة التركية أرشيف تركيا العسكري، وإباحة النظر فيه للمؤرخين. وفي تقويم عام للدور التركي الناهض والمتعرج، ربط مورتون أبراموفيتز وهنري جي باركي («فورين أفيرز»، 11-12/2009) مكانة تركيا بقطبين هما حل المسألة التركية في الداخل والانخراط في الدائرة الأوروبية الغربية. وينبغي ألا تحجب الإنجازات الإقليمية القطبين الحاسمين عن أنظار الحكم التركي، وألا يسترسل قادة حزب العدالة والتنمية مع «انبهارهم» بإنجازاتهم واستراتيجيتهم الناعمة. فهم لا يزالون في جوار قوى خشنة، وباقون هناك.