يبدو التوتر التركي - الإسرائيلي الراهن، في أحد أبرز جوانبه، كما لو كان تخريجاً طبيعياً ومباشراً لحال التنافر المزاجي وعدم التناغم السياسي بين الحكومتين الحاليتين في كل من أنقرة وتل أبيب. فمن جهتها تُحمّل الحكومة الإسرائيلية نظيرتها التركية المسؤولية عن ذلك التوتر، حتى أن وزير السياحة الإسرائيلي لم يتورع عن اعتبار رئيس الحكومة التركية رجب طيب أردوغان عدواً للدولة العبرية، كون حكومته تمثل حزب «العدالة والتنمية»، ذا الجذور الإسلامية، الأمر الذي يبقيه، وفقاً للتصور الإسرائيلي، أسيراً للنزوع الفطري نحو التطرف والتأسلم ومعاداة السامية. فإلى جانب إصرارها على نهج مغاير لذلك الذي تتبناه كل من واشنطن وتل أبيب حيال طهران ودمشق و»حزب الله» وحركة «حماس»، التي اعتبرها أردوغان حركة مقاومة مشروعة ضد الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، لا تتردد حكومة «العدالة» في كيل الانتقادات اللاذعة لإسرائيل، سواء في ما يخص تعاطيها مع الفلسطينيين أو ما يتصل بترسانتها النووية، الأمر الذي حض رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو على مطالبة رئيس الحكومة الإسبانية إبان زيارته لإسرائيل قبل أشهر بتسريع إجراءات انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي حتى لا تمعن في التغلغل إلى محيطها العربي والإسلامي على نحو يزج بها في أتون الحركات والأنظمة الراديكالية على حساب علاقاتها الاستراتيجية الوثيقة مع إسرائيل والغرب. وفي السياق ذاته، تتخوف حكومة نتانياهو من أن تفضي التوترات التركية - الإسرائيلية المتكررة إلى اختلال ميزان العلاقة بين أطراف المثلث التركي - الإسرائيلي - الأميركي لمصلحة تركيا على حساب إسرائيل، لا سيما بعد أن جنحت واشنطن في مستهل أزمة «أسطول الحرية» نحو استرضاء حكومة «العدالة والتنمية» عبر مطالبة إسرائيل بضرورة الامتثال للطلب التركي بالإفراج الفوري وغير المشروط عن جميع الناشطين الأتراك، والقبول بمشاركة دولية في التحقيقات التي سيتم إجراؤها بشأن الاعتداء على «أسطول الحرية». على الجهة الأخرى، لم يتورع أردوغان في خطابه الأخير امام البرلمان التركي عن مناشدة الشعب الإسرائيلي التحرك من أجل كبح جماح حكومة نتانياهو المتعجرفة التي ستفضي سياساتها الرعناء إلى إفساد علاقات إسرائيل بحلفائها وأصدقائها بعد تشويه صورتها عالمياً وإعادتها إلى غياهب العزلة الإقليمية. وفي هذا الإطار يرى الكاتب والناشط السياسي التركي جنكيز شاندار، أن بقاء حكومة نتانياهو في السلطة من شأنه أن يفضي إلى تغليب «الطابع الثأري» على العلاقات بين أنقرة وتل أبيب خلال المرحلة المقبلة، خصوصاً بعد أن تطورت الخلافات بينهما وتشعبت حتى وصلت إلى «الدم». وانطلاقاً من هذا الطرح، لم يستبعد محللون أتراك أن تكون الحكومة الإسرائيلية قد آلت على نفسها محاصرة حكومة «العدالة» وتقويضها عبر وسائل شتى من أبرزها: تأجيج نشاط مقاتلي «حزب العمال الكردستاني». إذ ينحو أولئك المحللون باتجاه تحميل حكومة نتانياهو مسؤولية تنامي عمليات هذا الحزب ضد الجيش التركي خلال الأسابيع القليلة المنقضية وعقب الاعتداء على «أسطول الحرية» وتهديده بنقل نشاطاته إلى عموم المدن التركية واستهداف أنابيب النفط والغاز العابرة للأراضي التركية، وذلك بعد أن شهد جنوب شرق تركيا، الذي تقطنه غالبية كردية والذي كان مسرحاً لربع قرن من الحرب مع «حزب العمال الكردستاني»، سلاماً نسبياً في الأشهر القليلة الماضية على أثر الهدنة التي أعلنها مقاتلو الحزب في العام الماضي من طرف واحد بالتزامن مع خطوات ملموسة قامت بها حكومة «العدالة والتنمية» للتوصل إلى حل سياسي للمسألة الكردية، تضمن خطة حكومية أطلقت في شهر حزيران (يونيو) الماضي حملت اسم «مشروع الأخوة والتضامن» انطوت على إجراءات سياسية واقتصادية وثقافية، إلى جانب أخرى أمنية، لتسوية المسألة الكردية. علاوة على ذلك، عمدت حكومة نتانياهو إلى تلغيم علاقات حكومة «العدالة التركية» بإدارة أوباما من خلال تخويف تلك الأخيرة من تمرد حكومة «العدالة» وتجاوزها للحدود والقواعد التي وضعتها واشنطن للتفاعلات والعلاقات الإقليمية لحلفائها وأصدقائها في المنطقة، والذي تجسد في محاولة الحكومة التركية تلافي أية عقوبات أو خطوات تصعيدية جديدة ضد إيران على خلفية برنامجها النووي من طريق إبرام اتفاق ثلاثي بمعاونة البرازيل لتبادل اليورانيوم عبر تركيا. ويبدو أن مساعي حكومة نتنياهو قد أتت أكلها، إذ بدأت دوائر سياسية وإعلامية في واشنطن تتراجع عن دعمها لتركيا مكيلة لها انتقادات شديدة، حيث لم تستبعد مؤسسة «بروكينغز» أن تنأى تركيا بنفسها عن حلف شمال الأطلسي وكذا التحالف الاستراتيجي مع إسرائيل كما فعل الرئيس الفرنسي السابق شارل ديغول في ستينات القرن الماضي، توخياً للاستقلال الوطني، والخروج من الأحلاف وقيود التزاماتها العامة، فضلاً عن تحقيق الحماية والردع النوويين على نحو مستقل بمنأى عن المظلة النووية الأميركية، وهي التكهنات التي تزامنت مع إعراب مسؤول تركي عن خيبة أمل بلاده من موقف بعض دول حلف شمال الأطلسي والتي لم يسمها، بسبب دعمها اللجنة الإسرائيلية التي كلفت النظر في الهجوم على «أسطول الحرية»، في الوقت الذي شكّك الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون في موضوعيتها. وبدوره، أورد الكاتب البريطاني سايمون تيزدال في صحيفة «الغارديان» البريطانية، أن مبادرات أردوغان في السياسة الخارجية الإقليمية ومغازلته إيران وخلافه مع إسرائيل وتودده لسورية، قادت معلقين غربيين الى توقع «إعادة تجميع إستراتيجي» في السياسة التركية، بعيداً من الغرب وحلف شمال الأطلسي وتقرباً من العالمين العربي والإسلامي، بالتوازي مع سعي حزب «العدالة والتنمية» الى ايجاد برنامج عمل إسلامي جديد في الداخل. كما علّق الكاتب الأميركي توماس فريدمان بأن «حكومة تركيا الإسلامية تبدو غير مركزة على الانضمام للاتحاد الأوروبي بل إلى الجامعة العربية وحماس وحزب الله وإيران ضد إسرائيل». كما تردد نقد شديد لهذا التحول الملحوظ في الكونغرس الأميركي، بينما عبرت إدارة أوباما عن قلقها من بعض الأعمال التركية الأخيرة، التي أرجعها وزير الدفاع الأميركي روبرت غيتس إلى تباطؤ الاتحاد الأوروبي في ضم تركيا الى عضويته. كذلك حذر نواب أميركيون تركيا من أن علاقاتها مع واشنطن ستتضرر إذا استمرت في ما يرونه مساراً معادياً لإسرائيل، وبعد أن شكر أعضاء مجلس الشيوخ أوباما لدعمه إسرائيل في مجلس الأمن الدولي بعد أن حالت إدارته دون قرار يلزم بفتح تحقيق مستقل في الهجوم على «أسطول الحرية»، طلب 87 عضواً من الرئيس الاميركي إدراج مؤسسة الإغاثة الإنسانية التركية التي كانت وراء «أسطول الحرية» على قائمة المنظمات الإرهابية كما فعلت إسرائيل. كذلك ندد نواب جمهوريون وديموقراطيون بتركيا بسبب مساندتها القافلة، وانتقدوا معارضة تركيا القرار الاخير الذي أصدره مجلس الأمن الدولي والذي يشدد العقوبات على إيران بسبب برنامجها النووي، ووصفوا أفعال تركيا بأنها «مخزية». وهدد هؤلاء النواب بتأييد أي خطوة للكونغرس مستقبلاً على طريق اعتبار ما تعرض له الأرمن خلال الحرب الكونية الأولى على أيدي العثمانيين إبادة جماعية. وفيما تستعر أوزار الحرب الكلامية بين الحكومتين الإسرائيلية والتركية، وتتبارى كل منهما في الإلقاء باللائمة على الأخرى بشأن ما آل إليه حال العلاقات الخاصة والممتدة بين بلديهما، يرى الكاتب الإسرائيلي ألوف بن أن أيا من الحكومتين لم تسلم من الوقوع في براثن الأصولية، كون الرباط العقائدي أضحى أهم من التماثل التاريخي لدى كليهما. فبينما يميل المجتمع الإسرائيلي بشدة نحو مزيد من اليمينية المفرطة والتدين، إذ يذهب 45 في المئة من طلاب الصفوف الأولى من الإسرائيليين اليوم إلى مدارس رسمية/دينية، بزيادة نسبتها 13 في المئة في العقد الأخير، تنامت نسبة التدين في تركيا بشكل ملحوظ خلال السنوات القليلة المنقضية على نحو ما تجلى في زيادة الإقبال على المدارس الدينية ومكاتب تحفيظ القرآن ودروس الدين. وأظهر استطلاع للرأي أجراه برنامج المسح الاجتماعي الدولي (آي إس إس بي) المختص بقياس مدى الالتزام بقيم الدين في العالم ونشرت بعض نتائجه صحيفة «حريت» العلمانية التركية يوم17 تشرين الثاني (نوفمبر) من العام الماضي، أن 83 في المئة من الأتراك يصفون أنفسهم بأنهم «متدينون»، فيما أكد 67 في المئة أنهم يديرون حياتهم بالطريقة التي يمليها عليهم معتقدهم الديني وليس القوانين التركية المتعارضة، في كثير منها، مع الشريعة الإسلامية، كما أعلن 50 في المئة أنهم يؤدون الصلاة بشكل منتظم. هنا يطرح السؤال نفسه: هل يمكن للعلاقات التركية - الإسرائيلية أن تنحو نحواً مغايراً، أو أن تعود إلى سيرتها الأولى إذا طويت حقبة حكم اليمين المتطرف في إسرائيل وأفل نجم حزب «العدالة والتنمية» في تركيا، أم أن كلا الحكومتين تشكل تخريجاً طبيعياً لما يعتمل داخل البلدين وفي محيطهما الإقليمي وفضائهما الدولي من تفاعلات سياسية خلال الآونة الأخيرة، توشك بدورها أن تجعل ما يعتري علاقاتهما حالياً نموذجاً عاماً لها في المدى المنظور على الأقل؟! تساؤل قد لا تتسع المساحة للإجابة عليه حالياً، لكن الأشهر المقبلة ربما تحمل بين ثناياها إجابة وافية عليه. * كاتب مصري.