في جلسة مجلس الوزراء السعودي، أثير موضوع الزيارة المفاجئة التي قام بها الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد جزيرة أبو موسى. ورأى الجميع أن نجاد تجاوز بعمله الاستفزازي كل الخطوات القانونية المتفق عليها بين طهران ودولة الإماراتالمتحدة. أي الخطوات التي تخضع للمفاوضات الثنائية أو التحكيم الدولي للفصل في قضية جزر الإمارات الثلاث: طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى. وزير خارجية الإمارات الشيخ عبدالله بن زايد آل نهيان، استغرب الزيارة غير المتوقعة التي قام بها الرئيس الإيراني بعدما قطعت الدولتان مراحل متقدمة في التفاوض على آلية مناسبة لإنهاء الخلاف. وعلق على كلامه من طهران وزير الخارجية علي أكبر صالحي، مكرراً رغبة بلاده في إقامة علاقات جيدة مع الإمارات. ولكنه وصف ضم الجزر الثلاث إلى السيادة الإيرانية بأنه قرار نهائي غير قابل للتفاوض. وهدد صالحي الدول العربية المعنية بأسوأ الاحتمالات إذا تصرفت بأسلوب بعيد عن الأصول الديبلوماسية. وزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي، عقدوا اجتماعاً طارئاً في الدوحة برئاسة وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل – رئيس الدورة الحالية – بهدف مناقشة ما وصفوه ب «الاحتلال الإيراني لجزر تابعة للإمارات العربية المتحدة». وأعربوا عن تضامنهم مع قضية يعتبرونها جزءاً لا يتجزأ من الأمن الخليجي. في الوقت ذاته، كانت إسطنبول تستضيف سكريتر المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني سعيد جليلي ووزيرة خارجية الاتحاد الأوروبي كاترين اشتون، إضافة إلى ممثلي الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن، زائد ممثل ألمانيا. الوزيرة اشتون اختصرت طبيعة المحادثات بالقول إنها كانت «بناءة ومفيدة»، وان استئنافها في بغداد (في 23 أيار - مايو) سيكون مثمراً شرط المحافظة على الأجواء الإيجابية. وحول مفاوضات إسطنبول، أصدر الجنرال حسين سلامي، نائب قائد «الحرس الثوري»، بياناً أعلن فيه «أن الدول الست الكبرى امتثلت لإرادة الشعب الإيراني في استيفاء حقوقه النووية المشروعة!». وجاء في ختام البيان: «إن اجتماع إسطنبول تمخض عن نتيجتين باهرتين، الأولى – أن الغرب امتثل لحقيقة أن إيران لا تريد سلاحاً نووياً. ومثل هذا الموقف ينسجم مع رؤية المرشد علي خامنئي بأن إيران لا تسعى مطلقاً إلى امتلاك سلاح نووي. أما النتيجة الباهرة الثانية، يمكن تسجيلها ضمن إنجازات مقاومة الشعب الإيراني، كونها تعترف بحقنا في امتلاك التكنولوجيا النووية السلمية». ويستفاد من المحصلة التي عرضها نائب قائد «الحرس الثوري»، أن إيران تراجعت عن قرار تصنيع القنبلة الذرية، لقاء وعود مغرية سوف يكشف عن تفاصيلها في مؤتمر بغداد المقبل. وكلفت الشخصية الثانية في «الحرس الثوري» – أي الجهاز الحاكم من وراء الستار – بتطمين الشعب إلى النتيجة المرضية. وفي هذا السياق، يرى المراقبون أن طهران حققت في مؤتمر إسطنبول أمرين مهمين: الأول، أن الدول الكبرى وعدتها بمنع إسرائيل من تسديد ضربة وقائية استباقية إذا هي أوقفت عملية تخصيب اليورانيوم لأغراض عسكرية... واكتفت باستخدامه لغايات مدنية سلمية. والأمر الثاني، أن تتعهد إيران بتجميد كل مسعى لامتلاك سلاح نووي، مقابل إلغاء كل القرارات الدولية والعقوبات التي تستهدفها. وهذا ما يفسر استياء رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتانياهو، وتخوفه من عواقب الفترة الزمنية التي منحت لإيران قبل انعقاد مؤتمر بغداد 23 أيار. وعبر عن ذلك بالقول: «إن فترة خمسة أسابيع قد تكون كافية لمواصلة عملية التخصيب قبل تفكيك منشأة قم». في مطلق الأحوال، يتبين من تصاريح كبار المسؤولين الإيرانيين، أن اهتمامهم كان منصباً على ضرورة إلغاء العقوبات الاقتصادية كثمن لأي تقدم في المفاوضات. وهذا ما أوحى به رئيس لجنة الأمن القومي في البرلمان علاء الدين بروجردي، الذي أكد في تصريحه الأخير: أن إلغاء العقوبات الاقتصادية، سواء المصرفية أو النفطية، سيكون في مقدم الأولويات التي سيطرحها الوفد الإيراني في قمة بغداد. وقال إن طهران ستكتفي من عملية التخصيب بما يؤمن الحاجات الدولية للبلاد. وفي تركيا، نشرت الصحف خلاصة الموضوع المركزي الذي أثاره الوفد الإيراني والمتعلق بأهمية شطب ستة قرارات دولية منها أربعة مرفقة بعقوبات. وقد أتبع الأميركيون والأوروبيون هذه القرارات بإصدار حظر تجاري ومالي ونفطي. ومن المتوقع أن يدخل القرار المتعلق بالنفط حيز التنفيذ في أول تموز (يوليو) المقبل. كذلك فتحت واشنطن الباب لفرض عقوبات جديدة على إيران في نهاية حزيران (يونيو) المقبل. من خلال هذه المشكلة المعقدة يمكن تفسير زيارة التحدي التي قام بها الرئيس أحمدي نجاد لجزيرة أبو موسى. صحيح أن دول مجلس التعاون الخليجي التزمت كلها تطبيق قرارات المقاطعة... ولكن الصحيح أيضاً أن توقف الإمارات عن التعامل بالريال الإيراني، أحدث هزة اقتصادية أثرت على مشاريع الخدمات والتنمية في الجمهورية الإسلامية. خصوصاً أن هناك أكثر من ثمانية آلاف شركة إيرانية مموهة فتحت فروعاً لها في أبو ظبي ودبي والشارقة وأم القوين وعجمان ورأس الخيمة والفجيرة. وذلك لخدمة أربعمئة ألف إيراني يعيشون في هذه الإمارات ويستعينون بخدماتها في حقلي الاستيراد والتصدير وكل ما هو غير نفطي. إضافة إلى هذا، فان مشكلة التجار الإيرانيين تتعدى هذه المحظورات لتدخل في أزمة مزدوجة: أي أزمة رفض التبادل بالريال الإيراني من قبل المصارف الخليجية ... وأزمة فرض القيود الحكومية المتشددة على إخراج العملة الصعبة من إيران. لهذه الأسباب راجت عمليات تهريب الأموال بالحقائب المنقولة جواً إلى أوروبا، أو بحراً إلى دبي. الإدارة الأميركية تسعى من وراء زيادة العقوبات الاقتصادية، إلى مضاعفة الأعباء المعيشية على المواطنين العاديين بحيث يؤدي الضغط إلى حدوث عصيان مدني يجبر النظام على تغيير سياسته النووية المكلفة. وتشير أرقام الأممالمتحدة إلى الأضرار التي ألحقتها العقوبات بالطبقات الوسطى والفقيرة. كما تؤكد مصادر المعارضة أن نسبة ثمانين في المئة من الإيرانيين تعيش تحت خط الفقر. وأن الدولة اضطرت إلى إقفال عدد كبير من المصانع بسبب ندرة المواد الخام وصعوبة المعاملات لشرائها. وتدعي المعارضة أن أكبر مصنع في مدينة «مزندران» والذي يضم سبعة آلاف عامل، اضطر إلى تقليص العدد إلى سبعمئة. إضافة إلى ازدياد نسبة العاطلين من العمل، فان العمال بدورهم يعانون من انتظار معاشاتهم لأشهر طويلة. الصحف المؤيدة للنظام تخدر الرأي العام بالحديث المتواصل عن المشاريع الجديدة التي تنفذها الدولة. فمن مشروع بناء شبكة «مترو» في تبريز... إلى اكتشاف المزيد من النفط والغاز في آبار التنقيب. ومن الإعلان عن استثمارات جديدة في مصر.. إلى توسيع حجم مبيعات النفط إلى الهند. ومن الحديث عن توسيع التجارة مع تركيا إلى عشرين بليون دولار... إلى التبجح بأن الدولة استوردت كميات من القمح غير خاضعة للعقوبات. كل هذا التطمين لم يمنع اتحادات العمال من التدخل المستمر لتطويق التظاهرات اليومية. كما لم يمنع الدول الغربية من مواصلة الضغوط الاقتصادية إلى حد يدفع الشارع إلى الانفجار، مثلما حدث في الدول العربية بواسطة «ربيعها». ويجمع المراقبون على القول إن قبول طهران بشروط مؤتمر إسطنبول، ليس أكثر من مؤشر بالغ الدلالة، على وجود تصدع اقتصادي حاولت حكومة نجاد امتصاص عواقبه. من هنا القول إن مؤتمر بغداد المقبل يشكل مرحلة جديدة من مراحل التقدم في مجال تخصيب اليورانيوم... أو حل مشكلة سورية... أو البحث عن دور إقليمي يلجم تصرفات إيران داخل محيطها. بين الأسباب الضاغطة التي دفعت الولاياتالمتحدة إلى تشجيع حلفائها الأوروبيين للمشاركة في مؤتمر إسطنبول، ما كشفت عنه صحيفة «هآرتس» الشهر الماضي. فقد ذكرت أن موسكو أبلغت الرئيس باراك أوباما بضرورة اتخاذ أقصى درجات الحذر في التعامل مع موضوع إسقاط النظام في سورية. ونقلت عن مصادر أميركية مسؤولة أن التخوف من مهاجمة سورية مثلما هوجمت ليبيا، هو تهديد إيران بالانتقام في مواقع استراتيجية مثل البحرين وينابيع النفط في الخليج. كل هذا في سبيل افتعال أزمة دولية كبرى تصرف الأنظار عن سورية. وقد أكد قائد القيادة المركزية في الجيش الأميركي الجنرال جيمس ماتيس، هذه التهديدات، مشيراً إلى حروب الظل التي تخوضها إيران في أفريقيا والشرق الأوسط. وقال إن فرق خفر السواحل اليمنية نقلت صوراً حية لعشرات القوارب التي يستخدمها «فيلق القدس» التابع ل «الحرس الثوري»، في نقل الأسلحة المتطورة إلى المتمردين الحوثيين. في ضوء هذه المستجدات التي تربك إيران وخصومها معاً، قررت واشنطن رفع العقوبات عن نظام الملالي مقابل التزامه بعدم تصنيع أسلحة نووية. ويبدو أن مؤتمر إسطنبول كان الاختبار الأول لعملية تسوية طويلة سوف تكون بغداد محطتها الثانية. ومن المتوقع أن تعرض الدول الغربية على إيران تسوية شاملة تدخل فيها حليفتها سورية، مستوحاة من طبيعة النظام الإقليمي الذي فرضه «الربيع العربي». وهو نظام يحول الدول الأيديولوجية الإسلامية إلى جمهوريات حديثة مثل تركيا. وبما أن الأسرة الدولية تتطلع إلى إيران كقوة ثورية متفجرة منذ عام 1979، فان تحولها من «قضية» إلى «دولة» يقتضي المرور في مراحل عدة. تقول الوزيرة اشتون إنها تتوقع من محادثات بغداد المقبلة خطوات ملموسة بهدف التوصل إلى تسوية تفاوضية شاملة تعيد الثقة الدولية في الطابع السلمي للبرنامج النووي الإيراني. أي التخصيب لتأمين الحاجات الداخلية للبلاد. لهذا تبدو التوازنات الإقليمية القائمة مرشحة للتغيير انسجاماً مع واقع الأنظمة الجديدة. وفي مؤتمر بغداد، ستخير الدول الكبرى المرشد علي خامنئي بين إبقاء النظام قضية ثورية منفلتة ... أم سلطة منضبطة تعين المنطقة على ترسيخ قواعد الاستقرار الإقليمي! * كاتب وصحافي لبناني