اذا كنا نعرف ان اليابان، حتى اليوم، وبعد نحو سبعين عاماً من قصف الاميركيين لمدينتي هيروشيما وناغازاكي، لم تبرأ من آثار القنبلتين الذريتين اللتين قصفتا بهما، فما الذي يمكننا ان نقوله عن حال اليابان، إزاء ذكرى تلك الكارثة - الجريمة، في العام 1950، بعد خمس سنوات من حدوثها؟ فإذا كان اليابانيون يرون، ولا يزالون يرون حتى اليوم، ان تينك القنبلتين، حتى وإن كانتا اوقفتا الحرب ومجازرها، كانتا اعظم جريمة ارتكبت ضد الانسانية، فإنهم من دون ادنى ريب، محقّون كلياً في ذلك. هي الجريمة الأكبر بالتأكيد، ولكن شرط ان نضعها في سياق واحد مع الجريمة الاخرى التي ادّت اليها: جريمة هتلر وموسوليني وهيروهيتو في شن تلك الحرب اصلاً. المهم ان اليابانيين، الذين كانوا هم من أصابتهم الكارثة اصلاً، عاشوها بكل جوارحهم منذ البداية، ثم خصوصاً عاشها كتابهم وفنانوهم، مستقين منها، مثل معين لا ينضب، مواضيع لروايات وأفلام ومسرحيات. وقد اسفر هذا كله عن صنف فني بأكمله يسمى أدب هيروشيما، او أدب الكارثة. ومن بين الاعمال الادبية رواية متميزة حملت اسم «مطر اسود»، وهي الرواية نفسها التي حقق عنها المخرج الكبير ايمامورا فيلماً لفت الانظار قبل سنوات، واعتبر فيلم هيروشيما بامتياز، وحمل عنوان الرواية نفسه. ولعل اغرب ما في هذه المسألة ان رواية «مطر أسود» تدور احداثها الاساسية بعد الكارثة بخمس سنوات، ومن خلال بعض الآثار المترتبة عليها، لا مباشرة اثناء حصولها. والبداية حكاية حب وزواج. الحكاية هنا، هي مع مطلع الرواية، حكاية الحسناء يازوكو التي تعيش مع عم وعمة لها في بيت متواضع في قرية غير بعيدة من مدينة هيروشيما، التي كانت قصفت قبل ذلك بسنوات. ولما كان من المفترض انّ يازوكو تستعدّ لعرسها مع خطيبها الذي يحبها وتحبه، يحدث ان يستعيد البعض واقعاً أليماً بالنسبة الى الفتاة. هو واقع يجعل منها فتاة ملعونة. ذلك ان ثمة اشاعة تقول ان يازوكو قد تلوّثت قبل سنوات بالإشعاع الذري، حتى وإن كان هذا لا يبدو ظاهراً في شكلها الخارجي. ومن المعروف في تلك الناحية من اليابان ان كل الذين كانوا موجودين في هيروشيما او ناغازاكي يعتبرون ملوّثين، وبالتالي ملعونين، ولا يجوز الاقتراب منهم. ومن هنا، كان من الطبيعي ان يبتعد الشاب المتقدم الى يازوكو ما إن تصل الاشاعة اليه. غير ان عم يازوكو، شيغيماتسو لا يود الرضوخ الى هذا الامر الواقع. فهو يعرف ربيبته جيداً، ويعرف خصوصاً انها ليست ملوّثة بالأشعة، وبالتالي لا يمكن ان تكون ملعونة، ويبقى عليه ان يثبت هذا انقاذاً لمستقبلها. فكيف السبيل الى ذلك؟ هو كان في هيروشيما خلال الكارثة، وكان قد اعتاد ان يدوّن يومياته. ويازوكو ايضاً كانت معتادة على تدوين يومياتها. لذا، ليس عليه إلا ان ينسخ يومياته ويوميات الفتاة لكي يؤكد «نظافتها». وتتألف بقية الرواية من تلك اليوميات التي يصف فيها كل من العم ويازوكو ما حدث لهما، بالضبط، لحظة سقوط القنبلة. وهذه اليوميات المزدوجة تشكل حكاية هيروشيما، مباشرة عن قرب - من طريق رواية العم - وعن مبعدة بعض الشيء، من طريق رواية الفتاة. وما هذه النصوص سوى حكاية الرعب والفزع والموت والدمار، مرويّة بتلك اللقطات المكبّرة وبتلك اللقطات البعيدة. تفيدنا يوميات الفتاة انها عند صباح يوم القنبلة، كانت وصلت باكراً الى مكان عملها في المصنع المقام في ضاحية هيروشيما، وكان هذا لحسن حظها. اذ لحظة الجريمة كانت يازوكو بعيدة بعض الشيء. ومن هنا، اذا كانت تحدثنا في اليوميات عما رأته، فإنها تتحدث عن «كتلة من نار لمحتها من بعد، كأنها تساوي ألف ألف شمس مندمجة». وفي المقابل، يصف لنا العم في يومياته هو الآخر ما شاهده: «لقد شاهدت كرة من نار كانت من القوة بحيث أعمتني تماماً ولم اعد ارى شيئاً. على التوّ صار كل شيء اسود اللون في ناظري. صار الكون كله اسود». ويحكي لنا شيغيماتسو انه خلال الساعات التالية راح، على غير هدى، يتخبط في أحياء المدينة، وقد غطت الجثث والدمار ارضها. إذاً، ها هي هذه اليوميات المزدوجة تصوّر الفارق بين ما رآه العم وما رأته يازوكو. غير ان الامور لا تقف عند هذا الحد، ذلك ان الرواية نفسها تتابع الاحداث بعد ذلك، لأن الجريمة لا تكفي وحدها لتصوير الرعب، يجب أن يصوّر ما بعدها، يجب ان تصوّر الحياة كما صارت تجري. ذلك ان الحياة قبل الجريمة ليست هي هي الحياة بعدها... حتى وإن كان لسان حال الناس البسطاء الذين اصيبوا ومات اقرباؤهم ودمّرت بيوتهم، يقول: يجب ان تستمر الحياة مهما كان الثمن. فالرواية، إذاً، تصوّر لنا كيف تستمر تلك الحياة. فالعم، الذي كان أُصيب بحرق كبير مؤذ في خده، يصطحب امرأته وربيبته (اللتين لم تصابا بأذى مباشر ظاهرياً) ليعيش الثلاثة في قرية مجاورة، في موضع كان يشتغل هو فيه ويعتبر الآن آمناً. وانطلاقاً من عيشهم ذاك، تتتابع فصول الحياة: الاحترام نفسه للكبار، الايمان بالشرعية نفسه، العلاقات الاجتماعية نفسها... ثم شبه اصرار على ان تصبح الكارثة شيئاً اشبه بالمسكوت عنه. من هنا يبدو ان كل شيء عاد الى مستقره. لكن هذا ليس إلا في الظاهر فقط، اذ حتى مجتمع جامد تراتبي متحفظ ومحافظ كالمجتمع الياباني، ما كان يمكنه في عمق أعماقه ان يفلت من مستتبعات الكارثة. وإن ببطء. والحقيقة ان هذا هو، بالتحديد، جوهر ما تصوّره هذه الرواية. اذ خلف عاديّة الحياة الظاهرة، راح يبدو واضحاً ان ثمة اموراً كثيرة قد تبدلت. في العقليات والعلاقات، خصوصاً ان «الكماشة» راحت، في العمق، تلتف حول عنق الديكتاتورية العسكرية. وبدأ نقد خجول يوجّه هنا وهناك الى «الجيش الذي يقهر الشعب». وبدأ الضباط، تدريجاً، يخشون تصرفات جنودهم. بل، حتى العم نفسه، الذي كان لا يكف عن الدعاء للإمبراطور ويجد ان للحرب ما يبررها، بدأ ينتقد الحرب بالتدريج. وفي لحظة - هي ذروة ما في هذه الرواية - انتفض صارخاً: «ماذا...؟ ان سلاماً ظالماً يبدو لي خيراً ألف مرة من حرب يقال عنها انها حرب عادلة». وهكذا صورت لنا الرواية كيف ان القنبلة تمكنت في نهاية الامر، وعلى رغم الظواهر كلها، من تحقيق هدفها: أرعبت الناس، وأحدثت في عمق أعماق الوجدان الياباني ذلك التغيير الذي يضؤل امامه أي تغيير جسماني خارجي. وفي هذا الاطار... هل كان في الامكان حقاً الافتراض ان يازوكو، التي، جسدياً، كان كل ما اصابها لحظة الانفجار، مطر اسود انهمر عليها، ثم غسل لاحقاً... لم تصب؟ ذلكم هو في الحقيقة السؤال الصعب وجوهر هذه الرواية، خصوصاً ان الخطيب نفسه الذي هرب حين وصلته الاشاعات، كان بهذا المعنى، بدوره مصاباً، حتى ولو انه أتى من مكان ناء من اليابان. مؤلف هذه الرواية الفذة هو مازوجي ايبوسي، المولود عام 1898، والذي رحل عن عالمنا قبل سنوات قليلة. ومازوجي هذا كان خاض الحرب مجنداً في سنغافورة، على رغم انه اصلاً لم يكن من أنصار النزعة العسكرية اليابانية. وهو خلال النصف الثاني من القرن العشرين اشتهر برواياته الشعبية، التي كان همّها وصف حياة اهل اليابان في الريف وفي المدينة. وكانت رواياته تستقبل دائماً بتقدير شعبي ونقدي. اما «مطر اسود» فإنها صدرت للمرة الاولى عام 1970، وترجمت فوراً الى كثير من اللغات. [email protected]