أحلم منذ وقت طويل بتتبع تاريخ اليابان الحديث من طريق رواية حيوات ثلاث مجموعات، مجموعة ضحايا هيروشيما وناغازاكي، ومجموعة المصابين بالإشعاع النووي في بيكيني، ومجموعة ضحايا انفجار المنشآت النووية. وإذا نظرنا إلى التاريخ الياباني من وجهة نظر هؤلاء الموتى والضحايا، برزت مأساتهم. واليوم، نلمس أن مخاطر المفاعلات النووية لم تعد احتمالات مفترضة فحسب. ومهما كانت نهاية الكارثة التي نواجهها – مع احترامي إلى المساعي البشرية لمكافحتها – فمعناها واضح وغير ملتبس. فتاريخ اليابان بلغ مرحلة جديدة. ولن يشيح ضحايا النووي أنظارهم عنا. فمعاناتهم ماثلة وراجحة. والعبرة من المأساة الأخيرة هي رهن قرارات من يتعهد ألا نقع في الخطأ نفسه. والكارثة تجمع عنصرين: ضعف اليابان أمام الزلازل وخطر الطاقة النووية. والعنصر الأول هو واقع يواجهه البلد منذ بداية التاريخ، والثاني هو ثمرة أعمال الإنسان، ونتائجه قد تكون أسوأ من نتائج الزلزال والتسونامي مجتمعين. ولكن ماذا خلص اليابان من مأساة هيروشيما؟ ووجب علينا التنبه إلى أن أبرز دروس المأساة هذه هي عدم جواز التفريط بكرامة الإنسان وكرامة الموتى من النساء والرجال وكرامة الناجين المصابين في أجسادهم الذين طوال أعوام طويلة عانوا معاناة قاسية. وأتمنى أن أكون نجحت في نقل المعاناة هذه في كتاباتي. وحريّ باليابانيين، وهم اختبروا النيران النووية، ألا ينظروا إلى الطاقة النووية في مرآة الإنتاجية الصناعية ومردودها، وألا يستخلصوا من مأساة هيروشيما «وصفة» نمو. وحفر تجربة هيروشيما في الذاكرة الإنسانية واجب. فهي كارثة أسوأ وأشد من الكوارث الطبيعية. فهي ولدت من رحم الإنسان. والوقوع في الخطأ نفسه وتكرار الجريمة من طريق بناء مفاعلات نووية هما مرآة الاستهتار بالحياة الإنسانية وخيانة ذكرى ضحايا هيروشيما. وأحد أبرز المفكرين اليابانيين المعاصرين، شويشي كاتو (1919 – 2008)، أبرز وجه الشبه بين القنابل النووية والمفاعل النووية، وهي تخرج عن عقال الإنسان، وبين عبارة وردت في عمل أدبي كلاسيكي هو وسادة الأعشاب. والعمل هذا صاغته امرأة، ساي شوناغون، قبل نحو ألف عام. وهي وصفت شيئاً يبدو بعيداً وقريباً في آن واحد. فالكارثة النووية تبدو احتمالاً ضعيفاً وبعيداً. ولكن الاحتمال هذا يلاحقنا وهو أقرب إلينا من الوريد. ووسمت خطاباً ألقيته اثر حيازتي جائزة نوبل للآداب في 1994 ب «أنا، ابن اليابان الملتبس». والالتباس هذا تفاقم مذ ذاك. فالقيم التي يرفعها اليابان بلغت طريقاً مسدوداً. فخلاف الالتباس هو الوضوح. ويوم وصفت بلدي بالالتباس في 1994، تنعم بمرحلة ازدهار الوقت فيها معلق. وتعليق الوقت أو وقفه يتيح إرجاء القرارات الحاسمة والتوجهات الواضحة. وحسِب اليابان أن إرجاء البت مقبول في ميزان بقية الدول. ولم يتبن تاريخه، ولم يتصد لمسؤولياته في العالم المعاصر. وفي غياب الوضوح السياسي، انتهج اليابانيون نهج نمو وتطور مطافه مجهول. فاندلعت الفقاعة المالية في مطلع 1990. واليوم، اليابان مدعو إلى توضيح موقفه وتحديد موضعه من العالم. فبروز الصين يضطره إلى تحمل مسؤولياته في آسيا وأمام سكان أوكيناوا، مركز أكبر القاعدات العسكرية الأميركية في الأرخبيل. وينتظر اليابانيون من حكومتهم انتهاج سياسة غير ملتبسة إزاء المرابطة الأميركية في اوكيناوا. وآن أوان صوغ دور جديد لهذه القواعد العسكرية. فالخيارات الفضفاضة غير مقبولة. والناجون من الحرب في أوكيناوا يطالبون الحكومة بموقف حازم. فبعد أكثر من 60 عاماً على الهزيمة، يبدو أن اليابان نسيَ التزاماته غداتها. فهو التزم السلم الدستوري ورفض توسل القوة، والتزم ثلاثة مبادئ مناهضة للنووي (رفض حيازة السلاح النووي، رفض صناعته، والامتناع عن استعماله). وحين هزمت اليابان في الحرب الثانية، كنت في العاشرة من العمر. وأقر الدستور الجديد بعد عام على الهزيمة، وانتهج مناهج تعليمية جديدة. وفي عقد ما بعد الهزيمة، تساءلت إذا كان السلم الدستوري هو مرآة مُثل يابان ما بعد الحرب. وإذا المراهق الذي كنته راودته الشكوك، وجب على الراشدين التساؤل والتصدي للمشكلة. وشيئاً فشيئاً، أنشأت اليابان قوة مسلحة، وأبرمت صفقات سرية مع الولاياتالمتحدة، واستوردت أسلحة نووية. وجعلت مبادئ مناهضة النووي الثلاثة حبراً على ورق. ولكن الأرخبيل لم يهمل مبادئ رجال ما بعد الحرب. ولم ينس اليابانيون معاناة القصف النووي. فالموتى كانوا يحدقون بنا، ويحملوننا على احترام مثلهم. وذكرى ضحايا ناغازاكي وهيروشيما حالت دون استخفافنا بمخاطر السلاح النووي القاتلة ودون التوسل بذرائع الواقعية السياسية في تسويغ حيازة السلاح الذري. وعارضنا حيازة السلاح، ولكننا ارتضينا إعادة التسلح والحلف العسكري مع الولاياتالمتحدة. ولم نحدد مضمون التزاماتنا السلمية. وثقة اليابانيين الراجحة في قدرة الردع الأميركية كانت جسر اليابان إلى انتهاج الغموض الديبلوماسي والالتباس السياسي. والثقة هذه تجاوزت الاختلافات السياسية، ولم يتوان رئيس الوزراء، يوكيو هاتوياما، في ذكرى قصف هيروشيما النووي في آب (أغسطس) 2010، عن إعلان ثقته بالردع النووي الأميركي، في وقت سلط المندوب الأميركي الضوء على مخاطر السلاح هذا. ونأمل بأن تكون حادثة مفاعل فوكوشيما جسر اليابانيين إلى احترام مشاعر ضحايا هيروشيما وناغازاكي، والإقرار بمخاطر النووي، وطي وهم نجاعة الردع النووي. وإذا نجحتُ في تجاوز الحوادث الأخيرة التي لا تعقل وحفلة الجنون هذه، افتتحت كتابي المقبل بعبارة من جحيم دانتي:» ثم خرجنا لمشاهدة النجوم وإلقاء نظرة جديدة عليها». * أديب ياباني حائز نوبل للآداب في 1994، عن «لوموند» الفرنسية، 16/3/2011، اعداد منال نحاس