الحدوتة أصغر من الحكاية، والحكاية أصغر من القصة أو الرواية، هذا ما نراه ونشاهده بعد أكثر من عام على سقوط نظام حسني مبارك. في مقال سابق أرسلنا ثلاث رسائل: الأولى إلى جماعة الإخوان، والثانية إلى الإعلاميين والكُتّاب ومقدمي البرامج التلفزيونية في مصر، أما الثالثة، فكانت مخصصة وموجهة إلى عمرو موسى، بوصفه أول مرشح لرئاسة الجمهورية، «عمرو موسى... «لا سلام ولا كلام»، «الحياة»، 29 آذار (مارس) 2012»، وفي هذا المقال أو «الحدوتة» سنعيد صياغة تلك الرسائل الثلاث، بناءً على ما نشاهده من مستجدات في الشأن السياسي في مصر، تجبرنا على طرحها وما تحمله من دلالات وتداعيات. المشهد السياسي في مصر اليوم يحمل طابعين: الطابع الأول، أن ما يجري من خلاف واختلاف بين القوى السياسية أمر طبيعي في ظل عدد من المعطيات، منها: سقوط نظام سلطوي مستبد عاث في مصر وما يرتبط بها فساداً، وأجواء الحرية غير المسبوقة بعد عقود من الشك والريبة بين السلطة والشعب، ونقص الخبرة لدى كل من ظهر على سطح السلطة. الطابع الثاني، أن ما يجري أمر مقلق في ظل عدد من المعطيات، أيضاً، منها: التآكل المتواصل لمكونات الدولة نتيجة الضمور في أوردة وشرايين الحياة اليومية للمواطن، والتأخر في كثير من القرارات الوطنية، والوضع السياسي الإقليمي والدولي المتردي بتسارع، وحال الفراغ السياسي على أرض الواقع وإمكان استغلاله من قوى داخلية وإقليمية ودولية. دخلت مصر عقوداً من التراجع بعد ثورة تموز (يوليو) 1952، وتم اختطافها عبر طيبة وسذاجة الفلاح المصري وسكان الريف، وعبر خدعة بدائية مفادها بأنهم سيعيشون في حال ميسورة بعد طرد الملك من القصور، صدّق المواطن المصري لعبة الثوار، وعام خلف عام، وعقد خلف عقد، انكسرت الشخصية المصرية بعد تردٍ فاضح في الاقتصاد والتعليم والأمن والصحة والثقافة، وقبل وبعد ذلك كله تردٍ في الحريات والكرامة الوطنية، بعد أن كانت مصر مشعلاً من مشاعل الحضارة في العالم. ففي النصف الأول من القرن ال 20 كان هناك أربع حواضر عالمية فقط: لندن وباريس والقاهرة ومومباي. لم يكن يذكر حينذاك أي من نيويورك أو لوس أنجليس أو ميلانو أو طوكيو أو كوالالمبور، ناهيك عن الرياض أو دبي أو الدوحة، كان النخبة من أبناء الخليج والعالم العربي يتهافتون على القاهرة لتلقي التعليم مجاناً، متمتعين بسكن مريح ومكافآت شهرية مجزية، كان العرب جميعاً، ومن دون استثناء، يحبون ويعشقون ويسهرون على أغاني أم كلثوم وعبدالحليم حافظ وفريد الأطرش وأسمهان، كما كانت كتب طه حسين والعقاد وأشعار أحمد شوقي وحافظ إبراهيم الخبز الثقافي والأرضية المعرفية لأجيال الخمسينات والستينات. خرجت مصر في 25 كانون الثاني (يناير) من ستة عقود من الظلم والاستبداد، ونفضت، في ميدان التحرير، الغبار عن فكر التجديد رغبة في الحرية والعدالة والديموقراطية، وقبل كل ذلك الكرامة الإنسانية، واختلط في ذلك الميدان الشهير مزيج من الحب والحرب، السلم والعنف، الشباب والكهول، الرجال والنساء بمختلف طوائفهم ومذاهبهم وأديانهم ومعتقداتهم، وفي الوقت نفسه وبالقدر نفسه، اختلط الحق بالباطل، والحقيقة بالوهم، والواقع بالافتراض. النتيجة، أن شمر جميع الطامحين إلى السلطة عن سواعدهم لكي يبدأوا رحلة الصعود إلى كرسي الرئاسة أو البرلمان. كان من نتائج ثورة 25 يناير أن تمكن جماعة الإخوان من تأسيس حزبهم السياسي تحت مسمى «الحرية والعدالة» بعد أن عانوا وشردوا وسجنوا واضطهدوا على مدى أكثر من ستة عقود، ومع أول انتخابات فاز حزبهم وشكّل، مع حزب النور «السلفيين»، غالبية واضحة في البرلمان، شيئاً فشيئاً ظهر على السطح بوادر فرقة وتسلط، ما عزز من مخاوف الشارع المصري، وفي مقدمهم شباب الثورة. موقف الإخوان من المجلس العسكري، والحكومة، والدستور، والترشح والمرشحين للرئاسة ليس إلا دليل واضح على التخبط والبعد من الحكمة، تلك الحكمة التي لازمتهم طوال الماضي ومن أهمها حكمتهم في عدم النزول إلى ميدان التحرير، على رغم دعمهم للشباب، كل ذلك خشية تثبيت المخاوف وسياسة التفزيع التي مارسها النظام السابق والولايات المتحدة للتخويف من الإسلاميين. نسي الإخوان أن التنازع يؤدي إلى الفشل وذهاب الريح... أصبح الإخوان، ممثلين في حزبهم، مصدر فزع للداخل أكثر من الخارج، وأصبح بأسهم بينهم شديداً، وموقفهم من الدكتور عبدالمنعم أبو الفتوح، عند ترشحه لمنصب الرئيس، خير دليل على ذلك، أما موقفهم من لجنة صياغة الدستور فهو دليل آخر على غياب الحكمة وفقدان البوصلة السياسية. نسيت جميع القوى السياسية، وفي مقدمهم الإخوان، حقيقة مهمة وهي أن ثورة 25 يناير قامت على رغم دستور ونظام سلطوي متمكن من جميع مفاصل الدولة، ومن رئيس قضى ثلاثة عقود على كرسي الحكم، ما يعني أنه بإمكان الشعب المصري أن يثور مرات ومرات على الدستور الجديد، سواء كتب بحبر وفكر الإخوان أو غيرهم، ولذا فإن الحكمة تقتضي أن يعيد الإخوان وجميع الأحزاب الإسلامية تفكيرهم في كثير من القضايا، ومن أهمها التشبث بالسلطة، فسوف يجدون منها عنتاً لا بعده عنت، إذا ما أخذنا في الاعتبار قضايا عدة، منها جهلهم بالسياسة، وعدم نضج البيئة السياسية في الوقت الحاضر، وأخيراً، سمعتهم وصدقيتهم وحب الشعب لهم الذي سيختل لا محالة. في مقطع آخر من المشهد السياسي يتخذ الإعلام المصري نشاطاً محموماً في نشر كل شيء وأي شيء، ما جعل المهتمين بالشأن السياسي تتملكهم الحيرة في أي من القنوات أو الصحف أو وسائل الإعلام يتتبعون. تعددت القنوات وتعددت المقابلات والبرامج الحوارية، وزاد الطين بلة دخول مرشحي الرئاسة على الخط، وأصبح كل منهم لا يكتفي بطرح برنامجه الانتخابي ومناقشته، بل يتخذ الحوار مساراً تحليلياً لما يجري على صعيد السياسة اليومي. المثير، أن كثيراً من أولئك المرشحين لكرسي الرئاسة لا يعلم ما إذا كان النظام في مصر سيكون رئاسياً، برلمانياً، أو مختلطاً. من ناحية ثانية، لا تزال المفاجآت تتالى في الشخصيات القادة لمنصب الرئاسة، وكان حري بالإعلام المصري والإعلاميين أن يصنعوا أولوياتهم وألا يكرروا الأخطاء التي تم الوقوع فيها في ما يخص البرلمان والدستور والرئيس، وأن يعيدوا العربة خلف الحصان، فإذا كان البرلمان ضمير الأمة، فإن الإعلام سمع وبصر الشعب، ومن واجبه المحافظة على الوحدة الوطنية. رسالتنا الثالثة في المقال السابق، المشار إليه أعلاه، كانت موجهة إلى عمرو موسى بأن ينسحب من الترشح للرئاسة، لأنه لا يملك رؤية حقيقية تقود مصر إلى ما يأمله الشعب المصري، وأن خططه وأرقامه وهمية ولن تتحقق، لكننا نقول هنا لبعض من تواصل معنا بأن المقال تحامل على مصر، نقول له «بالفم المليان» إن مصر أكبر من أن تختزل في أشخاص، ونجزم بأن عمرو موسى ليس مصر، كما نربأ بمصر أن يقودها أو يمثل شعبها عمرو موسى، خصوصاً ونحن نسمع ونشاهد شخصية وطنية مصرية مثل الدكتور، محمد البرادعي أو الدكتور عبدالمنعم أبو الفتوح، الذي يجمع بين الأصالة والمحافظة والانفتاح، يملك الثبات على الموقف، فنجده في عصر السادات أو مبارك أو ما بعد ثورة الشباب، لم يتغير أو يتبدل من حيث المبدأ، نستمع إلى جميع حواراته وطرحه، فنجد لديه ثباتاً في الرؤية، وصدقاً في المنهج، وتواضعاً في الأسلوب، إنها الحكمة التي يفتقد إليها الكثيرون، «ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً»، من ناحية أخرى، مصر - كما يقول المصريون - «ولاّدة»، وستشهد الساحة السياسية أسماء وشخصيات وطنية يقودون مصر إلى ما يريده الشعب، ولن تضطر مصر إلى إعادة إنتاج نفسها في انتخاب مرشحين من النظام السابق، من أمثال عمر سليمان أو عمرو موسى. في الختام، نأمل أن يبقى المشهد ضمن «الحدوتة»، وألا تتسع رقعة التخبط السياسي بسبب نشوة الحرية، أو ما قد يظن أنه نصر إلى فوضى غير خلاقة يدفع ثمنها المواطن المصري، الذي دفع بما يكفي من حريته وكرامته ولقمة عيشه عقوداً طويلة يلاحق فيها سراباً سياسياً، فتنقلب الأحداث إلى رواية بلا نهاية، تحكي جهالة عمياء تستفز الأحياء وتبعث المومياء. و«توتة توتة توتة، خلصت الحدوتة». * باحث سعودي. [email protected]