حتى أمس سحب 385 مواطناً طلبات الترشح لرئاسة مصر، والعدد قابل للزيادة حتى إغلاق باب الترشح الشهر المقبل، لكن على الأرجح لن يتمكن سوى أقل من عشرة مرشحين من الوفاء بشروط الترشح وهي دعم 30 نائباً أو 30 ألف مواطن. كما أن توازنات القوى والمفاوضات والصفقات غير المعلنة قد تنتج ما بات يعرف بالمرشح التوافقي، وهو على الأغلب من سيحظى بدعم المجلس العسكري ومؤسسات الدولة و «الإخوان» ورجال الأعمال. المرشح التوافقي بالمعنى السابق اعتبر من وجهة نظر مرشحين آخرين رئيساً تآمرياً ضد الإرادة الحرة للناخبين، ومحاولة للإبقاء على المباركية بصيغ جديدة تستبعد «الإخوان» والسلفيين عن منصب الرئيس. من هنا شكَّك البعض في نزاهة الانتخابات استناداً إلى أن المادة 28 من الإعلان الدستوري تمنع الطعن في قرارات لجنة الانتخابات، ورجَّح هؤلاء احتمالات التدخل الإداري لمصلحة منصور حسن القريب من المجلس العسكري، والذي أعلن ترشحه في اللحظة الأخيرة وبعد اجتماع مع سامي عنان رئيس الأركان، لكن طريق منصور (75 سنة) للرئاسة ليس سهلاً، على رغم ترحيب واشنطن وحزبي «الوفد» و «المصريين الأحرار» وتأييد قطاع من رجال الأعمال، فالرجل لم يكن من المعارضين علانية لنظام مبارك، ولم ينجح في رئاسته للمجلس الاستشاري في التعبير عن مطالب الثوار، إضافة إلى ارتباطه بصداقات وعلاقات قرابة ببعض رجال الأعمال والوزراء السابقين المتورطين في قضايا فساد. المشكلات التي تواجه منصور حسن ربما لا تجعل منه المرشح التوافقي المطلوب، فقد فشل في عقد صفقة مع «الإخوان»، حيث طالبوا بمنصب نائب الرئيس مقابل تأييده، وهو ما لا يستطيع منصور المدعوم من المجلس العسكري والقوى المدنية منحه ل «الإخوان». الأمر الذي دفع الجماعة إلى البحث عن مرشح للرئاسة من خارجها، حيث فاتحت عدداً من الشخصيات كان من بينهم نبيل العربي وطارق البشري ورئيس المجلس الأعلى للقضاء لكن الثلاثة رفضوا عرض «الإخوان». تفاعلات الساحة السياسية سريعة ومعقدة، والتفاهمات والتحالفات كثيرة، والأهم توازنات القوى بين المجلس العسكري والحكومة والبرلمان وشباب الثورة والتي قد تفاجئنا بمرشح توافقي جديد، أي أن منصور ربما يتحول إلى مجرد بالون اختبار لفكرة الرئيس التوافقي، يستخدمها المجلس العسكري على الطريقة نفسها التي طرح بها قبل أسابيع نبيل العربي، ما قد يعني احتمال طرح رئيس توافقي جديد سيكون هذه المرة من داخل المجلس العسكري، وعلى الأرجح قد يكون رئيس الأركان سامي عنان. ما أقصده بتوازنات القوة في هذه المرحلة أن غالبية أعضاء البرلمان، بطابعها المحافظ، يجعلها غير قادرة على التصعيد مع حكومة الجنزوري، بعد ابتعادها عن شباب الثورة، وخوفها من أي تصعيد قد يؤدي إلى صدام مع المجلس العسكري، والذي أكد حقه بموجب الإعلان الدستوري في إقالة أو تعيين الحكومة، كما لوَّح بإمكانية حلِّ البرلمان استناداً إلى حكم قضائي بعدم دستورية قانون انتخاب البرلمان!. هكذا بدت غالبية «الإخوان» والسلفيين في البرلمان بلا فاعلية سياسية وأضعف من أن تواجه حكومة الجنزوري والمجلس العسكري على رغم الاستياء الشعبي من أداء الحكومة. ويمثل ضعف البرلمان وتردد «الإخوان» والسلفيين وتآكل مصداقيتهم عناصر ضاغطة في اتجاه عقد صفقة ما في شأن لجنة كتابة الدستور والرئيس التوافقي، يحصلون بمقتضاها على بعض المكاسب، منها اختيار نائب للرئيس من المحسوبين على التيار الإسلامي. وأنا شخصياً غير قادر على التسليم بقدرة أي قوى سياسية بما في ذلك المجلس العسكري على تمرير صفقة الرئيس التوافقي، التي كثر الحديث عنها، أياً كانت شخصيته. فالشعب المصري بعد الثورة أثبت قدرة غريبة على إفشال كثير من المخططات وتكذيب كل استطلاعات الرأي العام وكل التوقعات في شأن سلوكه السياسي، بل إن الثورة ذاتها كانت وبكل المقاييس مفاجأة غير متوقعة حتى للطليعة الشبابية التي فجَّرت الأحداث، ثم جاءت نتيجة الاستفتاء على تعديلات الدستور بمفاجأة من العيار الثقيل، تلتها مفاجآت انتخابات البرلمان بغرفتيه، فقد رجح أغلب السياسيين والخبراء حدوث صدامات وأعمال عنف نتيجة غياب الأمن وحدّة المنافسة الانتخابية، وتخوفنا جميعاً من تراجع نسب التصويت، وقدرة الفلول على الفوز بالدوائر الفردية، لكن شيئاً من ذلك لم يحدث، وشكَّل حصول السلفيين على ربع أصوات الناخبين مفاجأة غير متوقعة للجميع بما في ذلك «الإخوان» والسلفيين أنفسهم، والحقيقة أنني ناقشت مع عدد من أساتذة الاجتماع والسياسة هذه الظواهر والتي أضافوا إليها مليونيات وموجات ثورية لم يتوقع أحد حدوثها، واتفقنا بعد نقاش طويل على أن الأطر والنماذج النظرية والأدوات البحثية التي نستخدمها في تفسير الظواهر الاجتماعية والسياسية بعد الثورة لم تعد صالحة، وأن علينا تطوير ما لدينا حتى نتمكن من فهم وتحليل كثير من الظواهر الاجتماعية والسياسية بعد الثورة. القصد أنه يصعب تماماً توقع نتائج انتخابات رئاسية نزيهة، وبالتالي لا يمكن ضمان نجاح رئيس توافقي أو توقع نتائج السباق الرئاسي والذي لم تكتمل ملامحه لكن يمكن التوقف عند الملاحظات التالية: 1- إن تزامن مسار السباق الرئاسي مع كتابة الدستور يخلق كثيراً من الإشكاليات أهمها، عدم تحديد طبيعة النظام السياسي وصلاحيات الرئيس، واحتمال تأثير مناخ السباق الرئاسي في عملية كتابة الدستور، وانشغال الرأي العام بقضايا وأحداث السباق الانتخابي على حساب كتابة الدستور، والأهم احتمال انتخاب رئيس من دون كتابة الدستور، لأن ما تبقى من وقت لا يكفي لكتابة الدستور وطرحه للنقاش المجتمعي ثم الاستفتاء عليه - لم يتفق حتى اليوم على لجنة وضع الدستور - ما قد يؤدي إلى استمرار العمل بالإعلان الدستوري والذي يمنح الرئيس صلاحيات واسعة، تكفي لخلق مستبد جديد، سيوجه ولا شك عملية كتابة الدستور لصالحه. 2- إن كثرة أعداد الراغبين في الترشح تكشف عن حيوية سياسية تتعارض مع الأحكام الرائجة عن تراجع الاهتمام بالعمل العام وفقر السياسة، فالمرشحون ينتمون لأجيال مختلفة، ويمثلون كافة طبقات المجتمع واتجاهاته الفكرية والسياسية. والمفارقة هنا أن معظم المرشحين لا ينتمون إلى الأحزاب السياسية، سواء أحزاب ما قبل أو بعد الثورة، ما يعني حرصهم على عدم التصنيف الحزبي ومحاولة كل منهم تقديم نفسه كمرشح لكل المصريين، على رغم خلفية بعضهم السياسية والحزبية. وتعكس هذه الظاهرة رؤية سلبية للأحزاب في إدراك الناخبين والمرشحين معاً، كما تكشف عن ضعف الأحزاب وعدم قدرتها على تقديم مرشحين للرئاسة. 3- يمكن تقسيم المرشحين إلى أربع مجموعات، تضم الأولى عدداً من كبار السن من رجالات الدولة المحسوبين على نظام مبارك وفي مقدمهم أحمد شفيق (71 سنة) وعمرو موسى (74 سنة). وتشمل المجموعة الثانية خليطاً واسعاً من القوى المدنية الليبرالية واليسارية والقومية من أبرزهم منصور حسن، وحمدين صباحي (59 سنة)، وأبو العز الحريري (70 سنة)، وخالد علي (40 سنة). أما المجموعة الثالثة فهي الأكثر عدداً وتنوعاً وتضم رجال أعمال وأساتذة جامعات ومهنيين، لم يعمل أغلبهم بالعمل السياسي، لكنهم رشحوا أنفسهم لأسباب مختلفة. وتضم المجموعة الرابعة عدداً من المرشحين الإسلاميين أبرزهم عبد المنعم أبو الفتوح (61 سنة) وحازم إسماعيل (51 سنة) ومحمد سليم العوا (70 سنة). 4- المتأمل في المجموعات الأربع للمرشحين يلحظ تقدم سن أبرز المرشحين، وتمثيلهم للتيارات الفكرية والسياسية الرئيسة، فالتيار الإسلامي له أكثر من مرشح كذلك الحال بالنسبة إلى الليبراليين واليساريين، والمحسوبين على نظام مبارك، وما لم تتغير هذه الخريطة وتظهر تحالفات جديدة فإننا أمام صراعات داخل تيارات الفكر والعمل السياسي في مصر، وتشتت في اتجاهات وأوزان التصويت، واحتمال مرجح بعدم حسم السباق من الجولة الأولى، مع صعوبات بالغة في توقع نتائج الانتخابات، بخاصة أن توازن القوى في انتخابات الرئاسة يختلف عن انتخابات البرلمان بغرفتيه، حيث ينخفض تأثير العوامل الشخصية والأسرية والجهوية، فمصر ستكون دائرة واحدة، ومن منح صوته لمصلحة «الإخوان» ليس بالضرورة أن يختار المرشح الذي سيدعمه «الإخوان»، فخريطة التحالفات واتجاهات التصويت مرتبكة وغير مستقرة، وعلى سبيل المثال انقسم شباب «الإخوان» بين تأييد أبو الفتوح وأبو إسماعيل، ويعاني «الوفد» انقسامات بعد أن أعلن دعمه لمنصور حسن بدلاً من عمرو موسى. ويمكن القول إن الحملة الأكثر تمويلاً وتنظيماً ربما تكون أكثر تأثيراً في الناخبين، لكنها قد لا تضمن نجاح مرشحها، بخاصة إذا وظف مرشح إسلامي الدين في المعركة الانتخابية، أو إذا اتفق «الإخوان» والسلفيون على دعم مرشح واحد. من جانب آخر يمكن القول إن منصور وموسى وشفيق تتوافر لهم موارد مالية أكثر من بقية المرشحين. في المقابل هناك حازم أبو إسماعيل السلفي المتأثر ب «الإخوان» والذي يدعو إلى تطبيق الشريعة الإسلامية، وهناك أيضاً مجموعة من المرشحين يمتلكون رأسمالاً رمزياً هائلاً مستمداً من انتمائهم للثورة، ويقدمون رؤى وأفكاراً أكثر راديكالية تتعلق بهدم نظام مبارك وتحقيق العدالة الاجتماعية، ولعل أبرز هؤلاء أبو الفتوح المنشق عن «الإخوان»، وحمدين المجدد في ناصريته، وخالد علي والحريري اليساريان، لكن تنافسهم جميعاً سيبدد فرص كل منهم في الفوز أو حتى في خوض جولة الإعادة. 5- لا بديل للمرشحين المحسوبين على نظام مبارك ولمنصور حسن من التوافق على رئيس ونائب أو نائبين لدعم فرص مرشح الدولة والمجلس العسكري في التنافس بقوة في معركة الرئيس، ولا بديل أيضاً أمام مرشحي الثورة سوى توحيد الصفوف والتوافق على رئيس مدني ونائبين، حتى يمكنهم تمثيل الثورة بقوة في السباق الانتخابي، وربما تحقيق نصر صعب لكنه ممكن ومطلوب، لأنه قد يضع نهاية لحالة الانقسام والاستقطاب بين الإسلاميين والقوى المدنية الثورية والتي لن تؤيد المحسوبين على نظام مبارك أو المرشح التوافقي. وأعتقد أن نجاح رئيس مدني لمصر ينتمي للثورة وفي الخمسينات من عمره سيخلق حالة من التوازن السياسي مع البرلمان بغالبيته الإسلامية المحافظة، كما سينقذ ما تبقى من الثورة ويقودها نحو تحقيق أهدافها. * كاتب مصري